الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان
.موعظة: عباد الله لقد تباعدت القلوب فِي هذا الزمان تباعدًا ينبغي أن يبكي له أشد البكاء، وأصبحنا بهذا التباعد لا أخاء بيننا، والسبب الوحيد فِي ذلك أن عشقنا الدنيا قضى نهائيًا على كل محبوب، وأصبح الهدف الوحيد هو الحصول عليها من أي طريق كَانَ، فالقلب واللسان والجوارح مشغولة ليلاً ونهارًا فِي طلب الدنيا، فهي المنتهى والمشتهى على حد قول الشاعر فيها وهي تلقب أم دفر والدفر النتن:آخر: آخر: آخر: آخر: فللدنيا يعق الولد أباه ويقاطع أخاه، وهو يعرف تمامًا أنه شقيقه وللدنيا المشاغبات بين الجيران والمتعاملين فللدنيا مكانة اليوم أنست الخلق خالقهم ورازقهم فإن حضروا للصلاة فالأبدان حاضرة والقلوب مع الدنيا، فعلت الدنيا بالناس اليوم أفاعيل كنت تخطر على البال، ومن أجل الدنيا ترى الخلق فِي قلاقل وأهوال.زر المحاكم وانظر ترى العجب العجاب، كل ذلك وأعظم مِنْه سببه حب الدنيا والانهماك فيها فأين نحن من سلفنا الصالح الذين قال الله تعالى فِي وصفهم: {أَشِدَّاء على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} فانظر شهادة الله لهم أنهم رحماء بينهم وهل تقتضي الرحمة إلا عطفًا مِنْهُمْ على إخوانهم وإحسانًا، وانظر إِلَى قوله تعالى: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.هكذا يكون المؤمنين، لذلك كَانَت هيبتهم فِي نفوس أعدائهم ترتعد مِنْهَا فرائض الشجعان وكانوا سادة الدنيا يشهد بذلك العدو قبل الصديق، فإن كنت فِي شك مما ذكرنا لك فانظر إلى مَا ذكره المحققون من المؤرخين.اللهم اجمع قلوب المؤمنين على محبتك وطاعتك، وأزل عنهم مَا حدث من المنكرات، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.فصل:وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه».قلت: يا رسول الله وما بوائقه؟ قال: «غشمه وظلمه ولا يكسب مالا ًمن حرام فينفق مِنْه فيبارك فيه، ولا يتصدق به فيقبل مِنْه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كَانَ زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبث لا يمحو الخبيث». رواه أحمد.وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره قال: «أطرح متاعك على الطريق». فطرحه فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه، فجاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لقيت من الناس، قال: «وما لقيت مِنْهُمْ؟» قال: يلعنوني.قال: «قَدْ لعنك الله قبل الناس». فقال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارفع متاعك فقد كفيت». رواه الطبراني، والبزار بإسناد حسن بنحوه إلا أنه قال: «ضع متاعك على الطريق». فوضعه فكان كل من مر به قال: مَا شأنك قال: جاري يؤذيني، قال: فيدعون عليه، فجاء جاره فقال: رد متاعك فإني لا أؤذيك أبدَا.وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال: «اذهب فاصبر». فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: «اذهب فاطرح متاعك فِي الطريق». ففعل فجعل الناس يمرونه ويسألونه فيخبرهم خبر جاره، فجعلوا يلعنونه، فعل الله به وفعل، وبعضهم يدعو عليه، فجاء إليه جاره، فقال: ارجع فإنك لن ترى مني شيئًا تكرهه. رواه أبو داود واللفظ له وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وعن مطرف بن عبد الله قال: كَانَ يبلغني عنك حديث وكنت أشتهي لقائك قال: لله أبوك قَدْ لقيتني فهات. قلت: حديث بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثك، قال: «إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة». قال فلا أخالني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: فقلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل قال: رجل غزَا فِي سبيل الله صابرًا محتسبًا فقاتل حتى قتل وأنتم تجدونه عندكم فِي كتاب الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}.قلت: ومن؟ قال: ورجل كَانَ له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت. فذكر الحديث رواه أحمد والطبراني واللفظ له وإسناده واحد إسنادي أحمد رجالهما محتج بهم فِي الصحيح ورواه الحاكم وغيره بنحوه وقال: صحيح على شرط مسلم.وعن نافع بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سعادة المرء الجار الصالح والمركب الهني والمسكن الواسع». رواه أحمد ورواته رواة الصحيح.وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهني. وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق». رواه ابن حبان فِي صحيحه.وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أن فلانة تكثر من وصلاتها وصدقتها وصيامها غير إنها تؤذي جيرانها بلسانها.قال: «هي فِي النار». قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي فِي الجنة». رواه أحمد والبزار وابن حبان فِي صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.ورواه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح أيضًا ولفظه وهو لفظ بعضهم قالوا: يا رسول الله فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل وتؤذي جيرانها، قال: «هي فِي النار». قالوا: يا رسول الله فلانة تصلي المكتوبات وتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي فِي الجنة».وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة من الفواقر، إمام إن أحسنت لَمْ يشكر وإن أسأت لَمْ يغفر، وجار سوء إن رأى خيرًا دفنه، وإن رأى شرًّا أذاعه، وامرأة إن حضرت آذتك وإن غبت عنها خانتك». رواه الطبراني بإسناد لا بأس به.وفي حديث أنس: «اثنان لا ينظر الله إليهما يوم القيامة قاطع رحم وجار سوء». وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.موعظة:عباد الله لقد كَانَ سلفنا فِي محبة بعضهم بعضًا آية من الآبيات وكان التراحم بينهم بالغًا مبلغًا يعده أهل الإنصاف غاية الغايات لذلك كَانَوا فِي محبة الخير لبعضهم على أرقى مَا يتصور فِي الدرجات.وهل يتصور أن يكون فِي أشد الجوع ويؤثر أخاه بماله من طعام عاملين بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مَا يحب لنفسه».وإن الخجل ونحن إذا فتشنا ثم فتشنا لا نجد قلبين مع بعضهما معية الإخاء التام يكون الجار فِي نهاية الفقر ولا يلتفت إليه جاره المثري وينزل بالأخ الشقيق أو العم الشقيق أو نحوهما مَا ينزل من الكوارث ولا أثر لنزولها عند أخيه ولا كَأنَه يرى تلك المصائب الفادحة ولعلك منتظر الجواب مَا هو السبب فِي ذلك فألق سمعك وأحضر قلبك.فأقول: لكل الناس اليوم شغل واحد هو المال شغلهم عما عداه وأنساهم كل مَا سواه ملأ القلوب حب هذا المال حتى لَمْ يبق فِي القلوب متسع لسواه فمن أجله تستباح الأعراض ومن أجله تراق الدماء ومن أجله يكون الصفا والمعاداة هو القطب الذي تدور حوله أفعال العباد فِي هذا الزمان.فالقلوب فِي سرور مَا دام المال سالمًا وإن انهار بناء الشرف والدين والنفوس فِي هدوء وطمأنينة مَا ابتعد عن المال فإذا قرب حوله هاجوا هيجان الجمال وهم فِي تواصل مَا لَمْ يتعرض للمال فإذا تعرض له انقطعت الصلات حتى بين الأقربين من آباء وأمهات وأولاد وإخوان.وهذا من ثمرات البخل قال بعضهم: البخيل يستعجل الفقر الذي هرب مِنْه ويفوته الغنى الذي يطلبه فيعيش فِي الدنيا عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء فالبخيل هو الوحيد الذي يستبشر ورثته بمرضه وموته وتجده ليله ونهاره مستغرق فِي جمع المال لا يفتر خوفًا من الفقر وهذا هو الفقر كما قيل: آخر: آخر: أما علم هؤلاء أن المال الذي كَانَ بأيدينا كَانَ قبلنا بيد إخواننا فِي الإنسانية الذين سبقونا إِلَى الدنيا ثم انتقل على من بعدهم من جيل إِلَى جيل إِلَى أن وصل سعد به صرفه مراضي الله وشقي به من صرفه فِي مَا يغضب الله.ولعلك يا أخي تتكدر إذا علمت أنه سينتقل عنك فِي أسرع وقت فلا تفزع ولا تتكدر ووطن نفسك وأعلم أنك والله ميت وموروث عنك مَا جمعت ومنعت رغم أنفك يتمتع به ذلك الوارث العاق أو البار وأنت تسأل عنه هللة وقرشًا قرشًا.وتكون النتيجة إن كنت جموعًا منوعًا شقاءً تستغيث فلا تغاث وتتمنى لو كَانَت الدنيا بيدك وافتديت نفسك بها تكون النتيجة ذلك إن كنت من المغرورين الغافلين الذين ظنوا أن السعادة كلها تيسير جمع المال وتكديسه عندك آلافًا وملايين وعمائر وفلل وأراضي وبيوت كدأب أهل هذا العصر الغافل المظلم بالمعاصي والبدع والمنكرات.الذي اعتاض أهله عن كتاب الله وسنة رسوله العكوف على الجرائد حمالة الكذب والمجلات الخليعات والكتب الهدامات والجلوس حول الملاهي والمنكرات فسوف تندم وتتحسر حينما ينكشف عنك الغطا ويتبين لك ذلك الخطأ وتتمنى أنك أمضيت أوقاتك فِي طاعة مولاك وهيهات أن يحصل لك مناك ذهب الأوان وبقي الندم والحرمان.قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ}.لقد أنسى حب هذا المال مَا لهم من شرف ومروءة ودين وجعلهم حول حطام الدنيا كما وصفهم الشافعي رحمه الله: أما علموا أن المال من خدم الدين فإذا تجاوز ذلك كَانَ نكبة على أصحابه وكذاك الأولاد إن كَانَوا غير صالحين فهم ضرر على أبيهم وعَلَى أنفسهم وكذلك الزوجة ولذلك ورد عن داود عليه السلام أنه كَانَ يقول: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء ومن مال يكون عليَّ عذابًا ومن ولد يكون وبالاً ومن زوجة تشيبني قبل المشيب ومن خليل ماكر عينه ترعاني وقلبه يشناني إن رأى خيرًا أخفاه وان رأى شرًا أفشاه».وقيل إنه سئل عيسى عليه السلام عن المال فقال: لا خير فيه. قيل: ولم يا نبي الله؟ قال: لأنه يجمع من غير حل. قيل: فإن جمع من حل؟ قال: لا يؤدى حقه. قيل: فإن أدى حقه؟ قال: لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء. قيل: فإن سلم؟ قال: يشغله عن ذكر الله. قيل: فإن لَمْ يشغله. قال: يطيل عليه حسابه يوم القيامة.فتأمل هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالمًا وورد عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال: كَانَ بين عمار بن ياسر وبين رجل كلام فِي المسجد فقال عمار: أسأل الله تعالى إن كنت كاذبًا أن لا يميتك حتى يكثر مالك وولدك ويوطئ عقبك. وورد عن حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خياركم فِي المائتين كل خفيف الحاذ». قالوا: يا رسول الله وما الخفيف الحاذ؟ قال: «الذي لا أهل له ولا ولد». اللهم اختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إِلَى رحمتك مصيرنا ومآلنا واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ومن بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا إلهنا ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الندامة يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
|