الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
بالغ سبحانه في نفي الأول عنهم حسبمًا علمت واكتفى في الثاني بنفي الإبصار فقال عز قائلًا: {وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} أي أنهم كانوا يتعامون عن آيات الله تعالى المبسوطة في الأنفس والآفاق، وكأن الجملة جواب سؤال مقدر عن علة مضاعفة العذاب كأنه قيل: ما لهم استوجبوا تلك المضاعفة؟ فقيل: لأنهم كروهوا الحق أشد الكراهة واستثقلوا سماعه أعظم الاستثقال وتعاموا عن آيات الملك المتعال، ولا يشكل على هذا قوله سبحانه: {مَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] بناءًا على أن المراد بمثل السيئة ما تقتضيه من العقاب عند الله تعالى فلعل ما فعلوه من السيئات يقتضي تلك المضاعفة فتكون هي المثل كما أن مثل سيئة الكفر هو الخلود في النار، وقيل: إن المضاعفة لافترائهم وكذبهم على ربهم وصدّهم عن سبيل الله تعالى وبغيهم إياها العوج وكفرهم بالآخرة على ما يدل عليه نسبة مضاعفة العذاب إلى هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات وبه جمع بين ما هنا؛ وقوله سبحانه: {مَن جَاء بالسيئة} [الأنعام: 160] الآية، ولعل التعليل بما تفيده الجملة على هذا لأنه الأصل الأصيل لسائر قبائحهم ومعاصيهم.وزعم بعضهم أن المضاعفة لحفظ الأصل إذ لولا ذلك لارتفع ولم يبق عذابًا للإلف بطول الأمد وفيه ما فيه، وقيل: إن الجملة بيان لما نفى من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل عن الولاية وقوله سبحانه: {يضاعف} إلخ اعتراض وسط بينهما نعيًا عليهم من أول الأمر بسوء العاقبة، وفيه أنه مخالف للسياق ومستلزم تفكيك الضمائر، وجوز أبو البقاء أن تكون: {مَا} مصدرية ظرفية أي يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وإبصارهم، والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد، وأجاز الفراء أن تكون مصدرية وحذف حرف الجر منها كما يحذف من أن وأن، وفيه بعد لفظًا ومعنى.{أولئك} الموصوفون بتلك القبائح {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى شأنه، وقيل: {خَسِرُواْ} بسبب تبديلهم الهداية بالضلالة والآخرة بالدنيا وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرياسة.وفي البحر أنه على حذف مضاف أي: {خَسِرُواْ} سعادة أنفسهم وراحتها فإن أنفسهم باقية معذبة.وتعقب بأن إبقاءه على ظاهره أولى لأن البقاء في العذاب كلا بقاء: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الآلهة وشفاعتها.{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)} أي لا أحد أبين أو أكثر خسرانًا منهم، فأفعل للزيادة إما في الكم أو الكيف، وتعريف المسند بلام الجنس لإفادة الحصر، وإن جعل: {هُمْ} ضمير فصل أفاد تأكيد الاختصاص، وإن جعل مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر أن أفاد تأكيد الحكم، وفي: {لاَ جَرَمَ} أقوال: ففي البحر عن الزجاج أن لا نافية ومنفيها محذوف أي لا ينفعهم فعلمهم مثلا، وجرم فعل ماض بمعنى كسب يقال: جرمت الذنب إذا كسبته؛ وقال الشاعر:
بما: {جرمت} يداه وما اعتدينا وما بعده مفعوله، وفاعله ما دل عليه الكلام أي كسب ذلك أظهرية أو أكثرية خسرانهم، وحكى هذا عن الأزهري، ونقل عن سيبويه أن لا نافية حسبما نقل عن الزجاج، وجرم فعل ماض بمعنى حق، وما بعد فاعله كأنه قيل: لا ينفعهم ذلك الفعل حق: {جَرَمَ أَنَّهُمْ في الآخرة} إلخ.وذكر أبو حيان أن مدهب سيبويه. وكذا الخليل أيضًا كون مجموع: {لاَ جَرَمَ} بمعنى حق وأن ما بعده رفع به على الفاعلية، وقيل: {لا} صلة و: {جَرَمَ} فعل بمعنى كسب أو حق، وعن الكسائي أن: {لا} نافية: {وجرم} اسمها مبني معها على الفتح نحو لا رجل، والمعنى لا ضد ولا منع، والظاهر أن الخبر على هذا محذوف وحذف حرف الجر من أن ويقدر حسبما يقتضيه المعنى، وقيل: إن: {لاَ جَرَمَ} اسم: {لا} ومعناه القطع من جرمت الشيء أي قطعته، والمعنى لا قطع لثبوت أكثرية خسرانهم أي إن ذلك لا ينقطع في وقت فيكون خلافه.ونقل السيرافي عن الزجاج أن: {لاَ جَرَمَ} في الأصل بمعنى لا يدخلنكم في الجرم أي الإثم كإثمه أي أدخله في الاثم، ثم كثر استعماله حتى صار بمعنى لابد، ونقل هذا المعنى عن الفراء، وفي البحر أن: {جَرَمَ} عليه اسم: {لا}، وقيل: إن: {جَرَمَ} بمعنى باطل إما على أنه موضوع له، وإما أنه بمعنى كسب والباطل محتاج له، ومن هنا يفسر: {لاَ جَرَمَ} بمعنى حقًا لأن الحق نقيض الباطل، وصار لا باطل يمينًا كلا كذب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا النبي لا كذب» وفي القاموس أنه يقال: لاَ جَرَمَ، ولا ذا جرم، ولا أن ذا جرم. ولا عن ذا جرم. ولا جرم ككرم، ولاَ جَرَمَ بالضم أي لابد، أو حقا أو لا محالة وهذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام، فيقال: {لاَ جَرَمَ} لآتينك انتهى، وفيه مخالفة لما نقله السيرافي عن الزجاج، وما ذكره من: {لاَ جَرَمَ} بالضم عن أناس من العرب، ولكن قال الشهاب: إن في ثبوت هذه اللغة في فصيح كلامهم ترددًا، وجرم فيها يحتمل أن يكون اسمًا وأن يكون فعلًا مجهولًا سكن للتخفيف، وحكى بعضهم لا ذو جرم ولا عن جرم ولا جر بحذف الميم لكثرة الاستعمال كما حذفت الفاء من سوف لذلك في قولهم: سوترى.والظاهر أن المقحمات بين: {لا} و{جرم} زائدة، وإليه يشير كلام بعضهم، وحكى بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك، ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا حرم والله تعالى يتولى هداك.ثم إنه تعالى لما ذكر طريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم وما له شرع في شرح حال أضدادهم وهم المؤمنون وبيان ما لهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسن المؤمنين المذكورة عند جمع في قوله سبحانه: {...} زائدة، وإليه يشير كلام بعضهم، وحكى بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك، ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا حرم والله تعالى يتولى هداك. اهـ.
{وما كان لهم من دون اله من أولياء}يجوز أن يكون المراد بالأول الأنصار، أي ما لهم ناصر ينصرهم من دون الله.فجمع لهم نفي سببي النجاة من عذاب القادر وهما المكان الذي لا يصل إليه القادر أو معارضة قادر آخر إياه يمنعه من تسليط عقابه.و: {مِن دون الله} متعلق بـ {أولياء} لما في الولي هنا من معاني الحائل والمباعد بقوله: {ومن يتخذ الشيطان وليًا من دون الله فقد خسر خسرانًا مبينًا} [النساء: 119].ويجوز أن يراد بالأولياء الأصنام التي تَولوْها، أي أخلصوا لها المحبة والعبادة.ومعنى نفي الأولياء عنهم بهذا المعنى نفي أثر هذا الوصف، أي لم تنفعهم أصنامهم وآلهتهم.و: {من دون الله} على هذا الوجه بمعنى من غير الله، ف {دون} اسم غير ظرف، و{من} الجارّة ل {دون} زائدة تزاد في الظروف غير المتصرفة، و{من} الجارة ل {أولياء} زائدة لاستغراق الجنس المنفي، أي ما كان لهم فرد من أفراد جنس الأولياء.والعذاب المضاعف هو عذاب الآخرة بقرينة قوله: {لم يكونوا معجزين في الأرض} المشعر بتأخير العذاب عنهم في الدنيا لاَ عنْ عجز.خبر عن اسم الإشارة.ويجوز أن تكون جملة: {لم يكونوا معجزين في الأرض} خبرًا أوّلًا وجملة: {يضاعف} خبرًا ثانيًا.ويجوز أن تكون جملة: {لم يكونوا معجزين} حالًا وجملة: {يضاعف} خبرًا أول.يجوز أن يكون هذا خبرًا عن اسم الإشارة أو حالًا منهُ فتكون استطاعة السمع المنفية عنهم مستعارة لكراهيتهم سماع القرآن وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم كما نفيت الإطاقة في قول الأعشى: أراد بنفي إطاقة الوداع عن نفسه أنه يحزن لذلك الحزن من الوداع فأشبه الشيء غير المطاق وعبّر هنَا بالاستطاعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى استماع القرآن فيعرضون لأنّهم يكرهون أن يسمعوه.قال تعالى: {ويلٌ لكل أفّاككٍ أثيممٍ يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصرّ مستكبرًا كأن لم يسمعها} [الجاثية: 8] وقال: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26] لأنهم لو سمعوا ووعوا لاهتدوا لأن الكلام المسموع مشتمل على تركيب الأدلة ونتائجها فسماعه كاف في حصول الاهتداء.والإبصار المنفي هو النظر في المصنوعات الدالة على الوحدانية، أي ما كانوا يوجهون أنظارهم إلى المصنوعات توجيه تأمل واعتبار بل ينظرون إليها نظر الغافل عما فيها من الدقائق، ولذلك لم يقل هنا: وما كانوا يستطيعون أن يبصروا، لأنهم كانوا يبصرونها ولكنّ مجرد الإبصار غير كاف في حصول الاستدلال حتّى يضم إليه عمل الفكر بخلاف السمع في قوله: {ما كانوا يستطيعون السمع}.ويجوز أن تكون الجملة حالًا ل {أولياء}، وسوّغ كونها حالًا من النكرة أن النكرة وقعت في سياق النفي.والمعنى: أنهم جعلوها آلهة لهم في حال أنها لا تستطيع السمع ولا الإبصار.وإعادة ضمير جمع العقلاء على الأصنام على هذا الوجه منظور فيه إلى أن المشركين اعتقدوها تَعْقل، ففي هذا الإضمار مع نفي السمع والبصر عنها ضرب من التّهكم بهم.
|