الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتبيين **
وأحببنا أن لا يكون مجموعاً في مكان واحدٍ إبقاءً على نشاط القارئ والمستمع مَرّ ابن أبي علقمة بمجلس بني ناجية فكبا حمارُه لوجهه فضحِكوا منه فقال: ما يضحككم رأى وجوهَ قريشٍ فسجد أبو الحسن قال: أتى رجلٌ عِباديّاً صيرفيّاً يستلف منه مائتي درهم فقال: وما تصنع بها قال: أشترِي بها حماراً فلعلِّي أربح فيه عشرين درهماً قال: إذَا أنا وهبتك العشرين فما حاجتُك إلى المائتين قال: ما أريد إلاّ المائتين فقال: أنت لا تريد أن تردَّها علي قال: وأتى قوم عِبَادِيّاً فقالوا: تحبُّ أن تُسْلِف فلاناً ألف درهم وتؤخره سنة فقال: هاتان حاجتان وسأقضي لكم إحداهما وإذا فعلتُ ذلك فقد أنصفت أمّا الدّراهم فلا تسهُل عليّ ولكنِّي أؤخره سنتين ولعب رجلٌ قدَّامَ بعض الملوك بالشِّطرنج فلمّا رآه قد استجاد لعبَه وفاوَضَه الكلامَ قال له: لم لا تولِّيني نهرَ بوق قال: أولّيك نصفَه اكتُبوا له عهدَة على بُوق وقال له مرّةً: ولِّني أَرمِينيَة قال: يُبطئُ على أمير المؤمنين خبرُك وقدِم آخرُ على صاحبٍ له من فارس فقال: قد كنتَ عند الأمير فأيَّ شيءٍ ولاّك قال: ولاّني قفاه قال: ونظر أميرٌ إلى أعرابيٍّ فقال: لقد همَّ لي الأميرُ بخير قال: ما فعلتُ قال: فبشَرٍّ قال: وما فعلتُ قال: إنّ الأمير لمجنون قال أبو الحسن: شهد مجنونٌ على امرأةٍ ورجلٍ بالزِّناءِ فقال الحاكم: تشهدُ أنّكَ رأيتَه يُدخِله ويخرجه قال: واللّهْ أنْ لو كنتُ جلدةَ استِها لما شَهِدت بهذا قال: وكان رجلٌ من أهل الرّيِّ يجالسنا فاحتبس عنّا فأتيتُه فجلست معه على بابه وإذا رجلٌ يدخُل ويَخرج فقلتُ: من هذا فسكت ثمن أعدتُ فسكَت فلما أعدت الثالثةَ قال: هو زوج أختِ خالتي وقال الشاعر: من الطويل إذا المرءُ جازَ الأربعِينَ ولم يكُنْ له دُونَ ما يأْتِي حَياءٌ ولا سِتْرُ فدَعْهُ ولا تَنْفَسْ عليه الَّذي أَتَى ولو جَرَّ أَرسانَ الحَياةِ له الدَّهْرُ أعرابيّ خاصمته امرأته إلى السُّلطان فقيل له: ما صنَعَت قال: خيراً كَبَّها اللَّه لوجهها وأمَرَ بي إلى السجن قال أبو الحسن: عرض الأسدُ لأهل قافلة فتبرَّعَ عليهم رجل فخرج إليه فلما رآه سقط وركِبه الأسدُ فشدُّوا عليه بأجمعهم فتنحَّى عنه الأسدُ فقالوا له: ما حالك قال: لا بأس عليّ ولكنّ الأسدَ خَرِيَ في سراويلي أبو الحسن: قال أبو عَبَاية السَّليطيّ: قد فَسَدَ الناس قلت: وكيف قال: ترى بساتين هَزَارَمرْد هذه ما كان يمرُّ بها غلام إلاّ بِخَفير قلت: هذا صلاح قال: لا بل فساد أبو الحسن قال: خطب سَعيد بن العاص عائشة بنت عثمان على أخيه فقالت: لا أتزوّجه قال: ولم قالت: هو أحمق له بِرذونان أشهبان فيحتمل مَؤونة اثنين وهما عند الناس واحد قال: كان المغيرة بن المهلَّب ممروراً وكان عند الحجاج يوماً فهاجت به مِرَّتُه فقال له الحجاج: ادخُل المتوضَّأ وأَمرَ مَن يقيم عنده حتّى يتقيّأ ويُفيق قال أبو الحسن: قالت خَيرَة بنت ضَمْرة القشيريَّة امرأة المهلَّب للمهلَّب: إذا انصرفتَ من الجمعة فأحبُّ أن تمرّ بأهلي قال لها: إنَّ أخاك أحمق قالت: فإنّي أحبُّ أن تفعل فجاء وأخوها جالسٌ وعنده جماعةٌ فلم يوسِّع له فجلس المهلّب ناحيةً ثم أقبل عليه فقال له: ما فعل ابنُ عمِّك فلان قال: حاضر فقال: أرسلْ إليه ففعل فلما نظر إليه غيرَ مرفوع المجلس قال: يا ابن اللَّخناء المهلَّبُ جالس ناحيةً وأنت جالس في صدر المجلس وواثبه فتركه المهلَّبُ وانصرف فقالت له خَيرة: أمررتَ بأهلي قال: نعمْ وتركتُ أخاك الأحمقَ يُضربَ قال: وكتب الحجّاج إلى الحكَم بن أيوب: اخطُبَ على عبد الملك بن الحجّاج امرأةً جميلة من بعيد مليحةً من قريب شريفةً في قومها ذليلةً في نفسها أمَةً لبعلها فكتب إليه: قد أصبتُها لولا عِظَم ثدييها فكتب إليه الحجّاج: لا يَحسُن نحرُ المرأة حتَّى يَعظُم ثدياها قال المَرّارُ بن مُنقِذٍ العَدَويِّ: من الرمل صَلْتَةُ الخَدِّ طَوِيلٌ جِيدُهَا ضَخمَة الثَّدي ولَمَّا يَنْكَسِرْ وقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه: لا حتَّى تدفئَ الضَّجيع وتُروِيَ الرضيع وقال ابن صُدَيقة لرجلٍ رأى معه خُفّاً: ما هذه القَلَنْسُوة فاحتكموا إلى عِرباض فقال عِرباض: هي قلنسوة الرِّجْلين قال أبو إسحاق: قلت لخنجير كوز: وعدتك أن تجيئني ارتفاعَ النهار فجئتني صلاةَ العصر قال: جئتُك ارتفاعَ العشيّ قال: قيل لأعرابيّ: ما اسمُ المرق عندكم قال: السَّخين قال: فإذا بَرَدَ قال: لا ندعُه حتّى يبرُد باع نخّاسٌ من أعرابيّ غلاماً فأراد أن يتبرّأ من عَيبه قال: اعلم أنّه يبول في الفِراش قال: إنْ وجد فِراشاً فليبُلْ فيه حدّثنا صديقٌ لي قال: أتاني أعرابيٌّ بدرهم فقلت له: هذا زائف فمن أعطاكه قال: لصٌّ مثلك وقال زيد بن كَثْوة: أتيت بني كَشٍّ هؤلاء فإذا عُرس وبُلقَ البابُ فادْرَنفَقَ وادَّمَج فيه سَرَعانٌ من الناس وأَلَصْتُ وُلوجَ الدار فدَلَظني الحدّاد دلظَةً دَهْوَرني على قِمّة رأسي وأبصرت شيخَانَ الحيِّ هناك ينتظرون المَزِيَّة فعُجْت إليهم فواللَّه إنْ زِلْنا نَظَارِ نَظارِ حتَّى عَقَلَ الظلّ فذكرت أخِلاَّئِي من بني تبر فقصدتهم وأنا أقول: تَركْنَ بَنِي كَشٍّ وما في دِيارِهِمْ عَوامدَ واعْصَوْصبنَ نحوَ بَنِي تبْرِ إلى مَعشَرٍ شُمِّ الأُنوفِ قِرَاهُمُ إذ نزل الأضيافُ مِن قَمَع الجُزْرِ وانصرفت وأتيتُ باب بني تبر وإذا الرجال صَتِيتانِ وإذا أرمِداءُ كثيرة وطُهاةٌ لا تحصَى ولُحمانٌ في جُثمان الإكام صالح بن سليمان قال: مِن أحمق الشعر قول الذي يقول: من الطويل أَهِيمُ بدعدٍ ما حَييتُ فإنْ أَمُتْ أُوكِّل بِدعدٍ من يَهيمُ بِها بَعدِي ولا يشبه قول الآخر: من الطويل فلا تَنكحِي إن فَرِّقَ الدَّهرُ بينَنَا أَغَمَّ القفا والوجهِ ليس بأَنْزَعا قال: مات لابن مقرِّنٍ غلام فحفر لهم أعرابيٌّ قبره بدرهمين وذلك في بعض الطَّواعين فلما أعطَوه الدِّرهمين قال: دعُوهما حتَّى يجتمع لي عندكم ثمنُ ثوب وأدخل أعرابيٌِ إلى المربد جَليباً له فنظر إليها بعض الغوغاء فقال: لا إله إلاّ اللَّه ما أسمن هذه الجُزُر قال له الأعرابي: ما لها تكون جُزُراً جَزَركَ اللَّه قال أبو الحسن: جاء رجلٌ إلى رجلٍ من الوجوه فقال: أنا جارُك وقد مات أخي فمُرْ لي بكفَن قال: لا واللَّهِ ما عندي اليومَ شيء ولكن تعهَّدْنا وتعودُ بعد أيام فسيكون ما تحبّ قال: أصلحَكَ اللَّه فنُملِّحه إلى أن يتيسر عندكم شيء قال: كان مولى البَكَرات يدَّعي البلاغة فكان يتصفح كلامَ الناس فيمدح الرديء ويذمّ الجيِّد فكتب إلينا رسالة يعتذر فيها من تركه المجيء فقال: وقطَعني عن المجيء إليكم أنه طلعَتْ في إحدى أَليتَي ابني بَثْرةٌ فعظُمت وعظُمت حتى صارت كأنها رُمّانة صغيرة وقال علي الأسواريّ: فلما رأيته اصفرّ وجهي حتى صار كأنه الكَشُوث وقال له محمد بن الجهم: إلى أين بلغ الماء منك قال: إلى العانة قال شعيب ابن زرَارة: لو كان قال: إلى الشِّعرة كان أجود وقال له محمد بن الجهم: هذا الدواء الذي جئتُ به قدرَ كَمْ آخذُ منه قال: قدرَ بعرة وقال عليّ: جاءني رجلٌ حَزَنْبَلٌ من هاهنا إلى ثَمَّة وقال قاسمٌ التَّمَّار: بينهما كان بينَ السماء إلى قريب من الأرض وقال قاسم التَّمّار: رأيت إيوانَ كسرى كأنما رُفِعت عنه الأيدي أوّلَ من أمْس وأقبل على أصحابٍ له وهم يشربون النبيذ وذلك بعد العصر بساعة فقال لبعضهم: قُمْ صَلّ فاتَتْكَ الصلاة ثم أمسَك عنه ساعة ثم قال لآخر: قُمْ صَلّ ويلك فقد ذهب الوقت فلما أكثر عليهم في ذلك وهو جالسٌ لا يقوم يصلِّي قال له واحدٌ منهم: فأنت لِمَ لا تصلِّي فأقبل عليه فقال: ليس واللَّه تعرَفون أَصلِي في هذا قلت: وأيُّ شيء أصلك قال: لا نصلِّي لأنّ هذه المغربَ قد جاءَت وقال قاسم: أنا أنفَسُ بنفسي على السلطان وأتى منزلَ ابن أبي شهابٍ وقد تعشَّى القومُ وجلسوا على النبيذ فأتوه بخُبزٍ وزيتون وكامَخ فقال: أنا لا أشرب النَّبيذَ إلاّ على زُهومة وقال: حين بِعتُ البغل بدأت بالسّرج وقال: ليس في الدنيا ثلاثةٌ أنكح منِّي: أنَا أُكسِلُ منذُ ثلاثِ ليالٍ في كلِّ ليلة عَشْرَ مرّات كأنّ الإكسال عنده هو الإنزال وقال: ذهب واللَّه منِّي الأطيبَين قلت: وأيُّ شيء الأطيبَين قال: قوّة اليدينِ والرّجلين وقال: فالتوَى لي عرقٌ حين قعدتُ منها مقعَد الرجلِ من الغُلام وقال في غلامٍ له روميّ ما وضعتُ بيني وبين الأرض أطيَبَ منه قال: ومحمّد بن حسان لا يشكرُني فواللَّهِ ما ناك حادِراً قطُّ إلا على يديّ وقال أبو خشْرم: ما أعجبَ النَّيك فقيل له: النيك وحده قال: سمِعنا الناس يقولون: ما أعجب أسباب الرزق وما أعجب الأسباب وكان قاسمٌ التَّمَّارُ عند ابنِ لأحمد بن عبد الصمد بن عليّ وهناك جماعة فأقبل وهبٌ المحتسب يعرِّض له بالغلمان فلما طال ذلك على قاسمٍ أراد أن يقطَعه عن نَفْسه بأن يعرّفه هوَانَ ذلك القول عليه فقال: اشهدوا جميعاً أنِّي أنيك الغلمان واشهدوا جميعاً أنيِّ أُعفِجُ الصِّبيان والتفتَ التفاتةً فرأى الأخوين الهذليّين وكانا يعاديانه بسبب الاعتزال فقال: عنيت بقولي: اشهدوا جميعاً أني لوطيّ أي أنِّي على دين لُوط قال القوم بأجمعهم: أنت لم تقل اشهدوا أنِّي لوطيّ وإنما قلت: اشهدوا جميعاً أني أنيك الصِّبيان قال سفيان الثوريّ: لم يكن في الأرض أحدٌ قطُّ أعلم بالنجوم ثُمَّ بالقِرانات من ما شاءَ اللَّهُ كان يريد ما شاء اللَّه المنجِّم وكان يقول: هو أكفر عندي من رام هُرمُز يِريد أكفر من هُرمُز وممن وَسْوَس: غَلْفَاءُ بن الحارث ملكُ قيسِ عيلان وَسْوَس حين قتل إخوتُه وكان يتغلَّفُ ويغلِّف أصحابَه بالغالية فسمِّي غلفاءَ بذلك وكان رجلٌ ينيك البَغلات فجلس يوماً يُخبِّر عن رجلٍ كيف ناك بغلةً وكيف انكسرت رجلُه وكيف كان ينالها قال: كان يضع تحت رجله لَبِنةً فبينما هو يُنْحِي فيها إذا انكسرت اللَّبِنة من تحت رجله وإذا أنا على قفاي ومن الأحاديث المولدة التي لا تكون وهو في ذلك مليحٌ قولهم: ناك رجلٌ كلبةً فعَقَدَتْ عليه فلما طال عليه البلاءُ رَفع رأسَه فصادف رجلاً يطّلع عليه من سَطح فقال له الرجل: اضربْ جنبها فلما ضربَ جنبَها وتخلَّص قال: قاتَلَه اللَّه: أيُّ نيّاكِ كلباتٍ هو وكان عندنا بالبصرة قاصٌّ أعمى ليس يحفظ من الدنيا إلاّ حديث جِرجِيس فلما بكى واحدٌ من النّظّارة قال القاصّ: أنتم من أيِّ شيءٍ تبكون إنما البلاء علينا مَعاشِرَ العُلَمَاء قال: وبكَى حولَ أبي شيبانَ ولدُه وهو يريد مكة قال: لا تبكوا يا بَنِيّ فإني أُريدُ أنْ أُضَحِّيَ عندكم وقال أخوه: وُلِدتْ في رأس الهلال للنّصف من شهر رمضان احسُب أنت الآن هذا كيف شئت وقال: تزوّجت امرأةٌ مخزوميّة عمَّها الحجاجَ بن الزُّبير الذي هدم الكعبة وقال: ذلك لم يكن أباً إنما كان والداً وقال أبو دينار: هو وإن كان أخاً فقد ينبغي أن يُنْصَف ومن المجانين علي بن إسحاقَ بن يحيى بن مُعاذ وكان أوَّلُ ما عُرف من جُنونه أنه قال: أرى الخطأَ قد كثُر في الدُّنيا والدُّنيا كلُّها في جوف الفلَك وإنما نُؤتَى منه وقد تخلخل وتخرّم وتزايل فاعتراه ما يعتري الهَرْمَى وإنما هو منجنونٌ فكم يصبِر وسأحتال في الصعود إليه فإني إن نجرَته ورَندجْتُه وسوّيته انقلب هذا الخطاءُ كله إلى الصواب وجلس مع بعض متعاقِلي فتيانِ العسكر وجاءهم النّخاس بجَوارٍ فقال: ليس نحن في تقويم الأبدان إنما نحن في تقويم الأعضاء ثمن أنِف هذه خمسة وعشرون ديناراً وثمن أُذنيها ثمانيةَ عشر وثمن عينيها ستة وسبعون وثمن رأسها بلا شيء من حواسِّها مائة دينار فقال له صاحبه المتعاقل: ها هُنا بابٌ هو أدخَلُ في الحكمة من هذا كان ينبغي لقدم هذه أن تكون لساقِ تلك وأصابعِ تلك أن تكون لقدم هذه وكان ينبغي لشفتَيْ تِيك أن تكون لفم تِيك وأن تكون حاجبَا تيك لجبين هذه فسمِّيَ مقوِّم الأعضاء ومن النوكى كلاب بن ربيعة وهو الذي قتل الجشميَّ قاتل أبيه دون أخوته وهو القائل: من الوافر ألم تَرَني تَأَرث بشيخِ صِدْقٍ وقد أخذ الإداوةَ فاحتساها ثأرتُ بشيخِهِ شيخاً كريماً شِفاء النَّفس إن شيءٌ شَفاها ومنهم: نَعَامةُ وهو بَيْهَسُ وهو الذي قال: مُكرهٌ أخاكَ لا بَطَل وإياه يعني الشاعر: من الطويل ومِن حَذَرِ الأيامِ ما حَزَّ أنفَهُ قَصِيرٌ ولاقَى الموتَ بالسيفِ بَيْهَسُ نَعَامةُ لمّا صَرَّعَ القومُ رَهْطَهُ تبيَّنَ في أثوابِهِ كيفَ يَلبَسُ وقال الحضرميّ: أمّا أنا فأشهد أنّ تميماً أكثرُ من محارب وقال حيّان البزّاز: قَبَح اللَّه الباطل الرُّطب بالسُّكّر واللَّه طيّب قال أبو الحسن: سمعت أبا الصُّغدي الحارثي يقول: كان الحجّاج أحمق بنى مدينَة واسطِ في بادية النَّبَط ثم قال لهم: لا تدخلُوها فلمّا مات دَبُّوا إليها من قريب مَسعدة بن المبارك قال: قلت للبَكراويّ: أبامرأتك حَمل قال: شيءٌ ليس بشيء قال: لمّا بنى عُبيد اللَّه بن زيادٍ البيضاء كتب رجلٌ على باب البيضاء: شيء ونصف شيء ولا شيء الشيء: مِهران التَّرجُمان ونصف شيءٍ: هند بنت أسماء ولا شيء: عبيد اللَّه بن زياد فقال عبيد اللّه: اكتبوا إلى جنبه: لولا الذي زعمتَ أنّه لا شيء لما كان ذلك الشَّيء شيئاً ولا ذلك النِّصف نصفاً وقال هشام بن عبد الملك يوماً في مجلسه: يُعرف حمق الرجل بخصال: بطول لحيته وشناعة كنيته وبشهوته ونقش خاتمه فأقبل رجلٌ طويل اللحية فقال: هذه واحدة ثم سأله عن كنيته فإذا هي شنعاء فقال: هاتان ثنتان ثم قال: وأيُّ شيءٍ أشهى إليك قال: رُمّانة مُصاصة قال أمَصَّكَ اللَّهُ ببظرِ أمِّك وقيل لأبي القَماقم: لم لا تغزو أو تخرج إلى المَصِيصَةِ قال: أمَصَّنِي اللَّه إذاً ببَظر أمي وقال الشاعر: من الطويل أأنصر أهل الشام ممن يكيدهم وأهلي بنجدٍ ذاك حرصٌ على النصر وقالوا لأبي الأصبَغْ بن رِبعيّ: أمَا تسمع بالعدوِّ وما يصنعون في البحر فلم لا تخرجُ إلى قتال العدوّ قال: أنا لا أعرفُهم ولا يعرفونني فكيف صارُوا لي أعداء قال: كان الوليد بن القعقاع عاملاً على بعض الشام وكان يستسقِي في كلِّ خطبة وإن كان في أيام الشِّعرَى فقام إليه شيخٌ من أهلِ حمص فقال: أصلح اللَّه الأمير إذاً تفسدَ القَطَانيّ يعني الحبوب واحدها قُطْنِيَّة وأما نفيسٌ غلامي فإنه كان إذا صار إلى فراشه في كلِّ ليلة في سائر السنة يقول في دعائه: اللهم علينا ولا حوَالَينا قال: وكان بالرَّقّة رجلٌ يحدِّث الناس عن بني إسرائيل وكان يكنى أبا عَقيل فقال له الحجّاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل قال: حنتمة فقال له رجلٌ من ولد أبي موسى: في أيِّ الكتب وجدْتَ هذا قال: في كتاب عمرو بن العاص ومن المجانينِ الأشراف: ابن ضَحيانَ الأزديّ وكان يقرأ: قلْ يا أيُّها الكافرين فقيل له في ذلك فقال: قد عرفتُ القراءة في ذلك ولكنِّي لا أجِلُّ أمر الكفار وقال حبيب بن أوس: من الكامل ما ولدَتْ حَوَّاءُ أحَمقَ لِحيةً مِن سائِلٍ يرجُو الغِنَى مِن سائِل وقال أيضاً: من الوافر أيُوسُفُ جِئتَ بِالعجَبِ العجِيبِ تركتَ النًّاسَ في شكٍّ مُرِيبِ سمِعْتُ بِكُلِّ داهية نآدٍ وَلَمْ أَسْمَعْ بِسَرَّاجٍ أَدِيب أمَا لَو أنَّ جَهْلَكَ عاد حِلماً إذاً لنَفَذْتَ في عِلمِ الغُيُوب وما لكَ بالغرِيبِ يدٌ ولكِنْ تَعاطيك الغرِيبَ من الغريبِ وأنشدوا: أَرَى زمناً نَوكاهُ أَسعدُ أهلِهِ ولكِنَّما يَشْقَى بِهِ كُلُّ عاقِل مشت فَوقهُ رِجلاهُ والرَّأْسُ تحتَهُ فكبَّ الأعالِي بِارتِفاعِ الأسافِلِ وقال الشاعر: من الطويل ولِلدَّهر أَيَّامٌ فكُنْ في لِباسِهَا كلبِستِه يوماً أَجَدَّ وأخْلقا وكُنْ أكْيَسَ الكَيَسى إذا كنتَ فيهمُ وإنْ كنتَ في الحمقَى فكُن أنتَ أحمقا وقال الآخر: من الطويل وأَنزلَني طُولُ النَّوى دارَ غَربةٍ إذا شِئتُ لاقَيتُ الذي لا أُشاكِلُهْ فحامَقْتُه ُ حتَّى يُقالُ سَجِيَّةٌ ولو كان ذا عقلٍ لكُنْتُ أُعاقلُهْ وقال أبو العتاهِيَة: من السريع مَن سابَقَ الدّهرَ كَبا كَبوةً لم يَسْتَقِلها مِن خُطَى الدهرِ فاخطُ مَعَ الدّهرِ إذا ما خطا واجْرِ مع الدهرِ كما يَجرِي ليس لمن ليست لهُ حيلةٌ موجودَةٌ خير مِن الصَّبْرِ وقال بِشرُ بنُ المعتَمِر: من السريع حيلة ما لَيسَت لهُ حيلةٌ حُسْنُ غَزاءِ النفسِ وَالصَّبْرُ وقال صالحُ بنُ عبدِ القُدُّوسِ: وإنَّ عَناءً أنْ تُفهِّمَ جاهِلاً ويَحسَبَ جَهلاً أنه منكَ أفهمُ وقال بِشْرُ بن المعتمِر: وإذَا الغَبيُّ رأيتَهُ مُسْتغنياً أعيا الطَّبيبَ وحِيلةَ المُحْتَالِ ومن المجانينِ: مهديّ بن الملوَّح الجعدي وهو مجنون بني جعدة وبنو المجنون: قبيل من قبائل بني جعدة وهو غير هذا المجنون وأمّا مجنون بني عامرٍ وبني عُقيل فهو: قيس بن مُعاذ وهو الذي يقال له: مجنونُ بني عامر وهما شاعران قيل ذلك لهما لتجنُّنهما بعشيقتين كانتا لهما ولهما أشعار معروفة وقد أدركتُ رواةَ المسجديِّين والمِربديِّين ومَن لم يروِ أشعار المجانينِ ولصوصِ الأعراب ونسيبَ الأعراب والأرجاز الأعرابية القصار وأشعارَ اليهود والأشعارِ المنصِفة فإنهم كانوا لا يعدّونه من الرواة ثم استبردوا ذلك كلَّه ووقَفوا على قصار الحديث والقصائد والفِقر والنُّتَف من كلِّ شيء ولقد شهدتُهم وما هم على شيءٍ أحرصَ منهم على نسيبِ العباس بن الأحنف فما هو إلاّ أن أورَدَ عليهم خلفٌ الأحمرُ نسيب الأعراب فصار زُهدُهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب ثم رأيتُهم منذ سُنيَّاتٍ وما يَروي عندَهم نسيبَ الأعراب إلاّ حَدَثُ السنِّ قد ابتدأ في طلب الشعر أو فِتيانيٌّ متغزّل وقد جلست إلى أبي عبيدة والأصمعيِّ ويحيى بن نُجَيم وأبي مالك عمرو ابن كِركِرَة مع مَن جالست من رواة البغداديِّين فما رأيت أحداً منهم قصَدَ إلى شعرٍ في النَّسيب فأنشده وكان خلفٌ يجمع ذلك كله ولم أرَ غاية النحويِّين إلا كلَّ شعرٍ فيه إعراب ولم أرَ غاية رواة الأشعار إلاّ كلَّ شعرٍ فيه غريبٌ أو معنىً صعبٌ يحتاج إلى الاستخراج ولم أرَ غايةَ رواةِ الأخبار إلاّ كلَّ شعرٍ فيه الشاهد والمثل ورأيت عامّتَهم - فقد طالت مشاهدتي لهم - لا يقفون إلاّ على الألفاظ المتخيَّرة والمعاني المنتخَبة وعلى الألفاظ العذْبة والمخارج السَّهلة والدِّيباجة الكريمة وعلى الطبع المتمكِّن وعلى السَّبك الجيِّد وعلى كلِّ كلامٍ له ماءٌ ورونق وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عَمَرتها وأصلحتها من الفَساد القديم وفتحت للِّسانِ بابَ البلاغة ودلَّت الأقلام على مدافن الألفاظ وأشارت إلى حِسان المعاني ورأيت البصرَ بهذا الجوهرِ من الكلام في رُواة الكتّاب أعمَّ وعلى ألسنة حُذَّاق الشُّعراء أظهر ولقد رأيت أبا عمرو الشيْبانيّ يكتب أشعاراً من أفواه جُلَسَائه ليُدخِلَها في باب التحفُّظ والتذاكُر وربما خُيِّل إليهَ أن أبناءَ أولئك الشعراءِ لا يستطيعون أبداً أن يقولوا شعراً جيداً لمكان أَعراقهم من أولئك الآباء ولولا أن أكون عيَّاباً ثم للعلماء خاصة لصوَّرْتُ لك في هذا الكتاب بعضَ ما سمعتُ من أبي عبيدة ومَنْ هو أبعدُ في وهمك من أبي عبيدة قال ابن المبارَك: كان عندنا رجلٌ يكنى أبا خارجة فقال له: لِمَ كنَّوْك أبا خارجة قال: لأني وُلدت يومَ دخل سليمانُ بن عليّ البصرة وكان عندنا شيخٌ حارسٌ من علوج الجبَل وكان يكنى أبا خُزيمة فقلت لأصحابنا: هل لكم في مسألة هذا الحارس عن سبب كنيته فلعلَّ اللَّه أن يفيد من هذا الشَّيخ علماً وإن كان في ظاهر الرأي غيرَ مأمولٍ ولا مُطمِع وهذه الكنية كنية زُرارة بن عُدُس وكنية خازم بن خُزيمة وكنية حَمزة بن أدرَك وكنية فلانٍ وفلان وكلُّ هؤلاء إمّا قائد متبوع وإما سيِّد مُطاع فمن أين وقع هذا العِلْجُ الألكن على هذه الكنية فدعوتُه فقلت له: هذه الكنية كنَّاك بها إنسانٌ أو كنَّيت بها نفسَك قال: لا ولكنِّي كنَّيت بها نفسي قلت: فلِمَ اخترتَها على غيرها قال: وما يُدْريني قلت: ألك ابن يسمَّى خُزَيمة قال: لا قلت: أفكان أبوك أو عمك أو مولىً لك يسمَّى خُزيمة قال: لا قلت: فاتركْ هذه الكنيةَ واكتنِ بأحسنَ منها وخُذْ منِّي ديناراً قال: لا واللَّه ولا بجميع الدنيا أعطى المحلولُ ابنه درهماً وقال: زِنْه فطرح وزنَ درهمين وهو يحسبه وزن دِرهم فلما رَفعَه وجَده زالاًّ فألقى معه حبّتين فقال له أبوه: كم فيه قال: ليس فيه شيء وهو ينقص حبّتين وكان عندنا قاصٌّ يقال له أبو موسى كُوشُ فأخذ يوماً في ذِكر قِصَر الدُّنيا وطول أيام الآخرة وتصغير شأن الدنيا وتعظيم شأن الآخرة فقال: هذا الذي عاش خمسين سنةً لم يعِشْ شيئاً وعليه فَضْل سنتين قالوا: وكيف ذاك قال: خمس وعشرون سنةً ليلٌ هو فيها لا يعقِل قليلاً ولا كثيراً وخمسُ سنين قائلةٌ وعشرون سنةً إما أن يكون صِبيّاً وإما أن يكون معه سُكْر الشَّبابِ فهو لا يعقل ولا بدّ من صَبُحة بالغَداة ونَعسةٍ بين المغرب والعِشاء وكالغَشْي الذي يصيب الإنسانَ مراراً في دهره وغير ذلك من الآفات فإذا حَصَّلنا ذلك فقد صح أن الذي عاش خمسين سنة لم يَعِش شيئاً وعليه فَضْلُ سنتين وقال بعض الهُلاّك: دخل فلان على كسرى فقال: أصلحك اللَّه ما تأمُر في كذا كذا وقال رجلٌ من وجوه أهل البصرة: حدثتْ حادثةٌ أيام الفُرس فنادَى كسرى: الصلاة جامعة وقلت لغلامي نَفيس: بعثُتك إلى السوق في حوائجَ فاشتريتَ مالم آمُرْكَ به وتركت كلَّ ما أمرتُك به قال: يا مولاي أنا ناقةٌ وليس في رُكبتي دماغ وقال نفيسٌ لغلام لي: الناس ويلَكَ أنت حياء كلّهم أقلّ يريد: أنت أقلُّ الناس كلهِم حياء وقلت لنَفيسٍ: ابنُ بُرَيهة هذا الصبيُّ في أيِّ شيءٍ أسلموه قال: في أصحاب سِند نعال يريد أصحاب النّعال السندية وروى الأصمعيُّ وابن الأعرابي عن رجالهما أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إنّا مَعْشَرَ الأنبياءِ بِكاءٌ فقال ناس: البَكْءُ: القِلّة وأصل ذلك من اللبن فقد قلنا: ليس في ظاهر هذا الكلام دليلٌ على أنَّ القِلّة من عجزٍ في الخلقة وقد يحتمل ظاهرُ الكلام الوجهين جميعاً وقد يكون القليلُ من اللفظِ يأتي على الكثير من المعاني والقِلّة تكون من وجهين: أحدهما من جهة التحصيل والإشفاق من التكلف وعلى تصديق قوله: " قُلْ ما أَسأَلُكُم عليهِ مِن أجْر وَمَا أَنَا مِنَ المُتكلِّفِينَ " ص: 86 وعلى البعد من الصنعة ومن شدّة المحاسبة وحَصْرِ النَّفس حتى يَصير بالتمرين والتوطين إلى عادةٍ تُناسب الطبيعة وتَكونُ من جهة العجز ونُقصان الآلة وقِلّة الخواطر وسوءِ الاهتداء إلى جياد المعاني والجهلِ بمحاسن الألفاظ ألاَ ترى أنّ اللَّه قد استجاب لموسى عليه السلام حين قال: " وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَاني يَفْقَهُوا قَوْلي وَاجْعَلْ لي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هرُونَ أَخِي اشْدُدْ بهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً قَال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى " طه: 27 - 37 فلو كانت تلك القِلّة من عجزٍ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحقَّ بمسألة إطلاق تلك العُقدة من موسى لأنّ العربَ أشدُّ فخراً ببيانها وطولِ ألسنتها وتصريف كلامها وشدة اقتدارها وعلى حسب ذلك كانت زِرايتها على كلِّ مَن قَصّر عن ذلك التمام ونَقَص من ذلك الكمال وقد شاهدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وخُطَبه الطِّوَال في المواسم الكبار ولم يُطِل التماساً للطُّول ولا رغبةً في القدرة على الكثير ولكنّ المعاني إذا كثُرت والوجوهَ إذا افتَنَّت كثُر عددُ اللفظ وإنْ حُذِفت فُضُوله بغاية الحذف ولم يكن اللّهُ ليعطيَ موسى لتمام إبلاغِه شيئاً لا يعطيه محمداً والذين بُعِث فيهم أكثر ما يعتمدون عليه البيانُ والَّلسَن وإنما قلنا هذا لِنَحْسِمَ جميعَ وجوه الشَّغْب لا لأنّ أحداً من أعدَائه شاهَدَ هناك طَرَفاً من العجز ولو كان ذلك مرئيّاً ومسموعاً لاحتجُّوا به في الملا ولتناجَوا به في الخلا ولتكلم به خطيبُهم ولقال فيه شاعرُهم فقد عرف الناسُ كثرةَ خطبائهم وتسرُّعَ شعرائهم هذا على أنّنا لا ندري أقال ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم لم يقله لأنَّ مثلَ هذه الأخبارِ يُحتاج فيها الخبر المكشوف والحديثِ المعروف ولكنّا بفضل الثِّقة وظهور الحُجّة نجيب بمثل هذا وشبِهه وقد علمنا أنّ مَن يَقرِض الشعر ويتكلَّف الأسجاع ويؤلِّف المزدَوِج ويتقدَّم في تحبير المنثور وقد تعمَّقَ في المعَاني وتكلّفَ إقامةَ الوزن والذي تجود به الطبيعةُ وتعطيه النفس سَهْواً رَهواً مع قلّة لفظه وعدد هجائه - أحمدُ أمراً وأحسن موقعاً من القلوب وأنفعُ للمستمعين من كثيرٍ خرج بالكَدِّ والعلاج ولأنّ التقدُّم فيه وجمعَ النفس له وحَصْرَ الفكر عليه لا يكونُ إلاّ ممن يحبُّ السُّمعة ويهوَى النَّفْج والاستطالة وليس بين حال المتنافِسَين وبين حال المتحاسِدَين إلاّ حجاب رقيق وحِجازٌ ضعيف والأنبياءُ بمندوحةٍ من هذه الصفة وفي ضدِّ هذه الشِّيمة وقال عامر بن عبد قيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقَعَت في القلب وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان وتكلَّم رجلٌ عند الحسن بمواعِظَ جَمَّةٍ ومعانْ تدعو إلى الرّقّة فلم يُرَ الحسَنُ رقّ فقال الحسن: إما أن يكون بنا شرٌّ أو يكونَ بك يذهب إلى أنّ المستمع يرِقّ على قدر رِقّة القائل والدليلُ الواضح والشاهد القاطع قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: نُصرْتُ بِالصِّبَا وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وهو القليل الجامع للكثير وقال اللّه تعالى وقوله الحقُّ: " وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ " يس: 9 ثم قال: " وَمَا يَنْبَغِي لَهُ " يس: 69 ثم قال: " ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ " الشعراء: 224 - 225 فعَمّ ولم يخصَّ وأطلقَ ولم يقيِّد فمن الخصال التي ذَمَّهم بها تكلفُ الصَّنْعة والخروجُ إلى المباهاة والتّشاغلُ عن كثيرٍ من الطاعة ومناسبةُ أصحاب التشديق ومَن كان كذلِك كان أشد افتقاراً إلى السامع من السامع إليه لشغَفه أن يُذكَرَ في البلغاء وصَبابته باللَّحاق بالشُّعراء ومن كان كذلك غلبت عليه المنافسةُ والمغالبة وولَّد ذلك في قلبه شِدّةَ الحميّة وحبّ المجاذبة ومن سَخُف هذا السُّخفَ وغَلَبَ الشّيطانُ عليه هذه الغلبةَ كانت حالهُ داعيةً إل قول الزُّور والفخرِ بالكذب وصرفِ الرغبة إلى النّاس والإفراط في مديح من أعطاه وذمِّ من مَنَعه فنزّه اللَّه رسولَه ولم يعلِّمه الكتابَ والحِساب ولم يرغِّبه في صنعة الكلام والتعَبُّدِ لطلب الألفاظ والتكلُّف لاستخراج المعاني فجَمع له بالَه كلَّه في الدعاءِ إلى اللَّه والصّبر عليه والمجاهدة فيه والانبتات إليه والميل إلى كل ما قرَّب منه فأعطاه الإخلاص الذي لا يشُوبه رياء واليقينَ الذي لا يَطُورهُ شكّ والعزمَ المتمكّن والقوّة الفاضلة فإذا رأت مكانَهُ الشّعراءُ وفهمته الخطباء ومَن قد تعبّدَ للمعاني وتعوَّدَ نظمها وتنضيدَها وتأليفها وتنسيقَها واستخراجَها من مدافنها وإثارتها من مكامِنها علموا أنَّهم لا يبلغون بجميع ما مَعهم ممَّا قد استفرغهم واستغرَقَ مجهودَهم وبكثيرِ ما قد خُوِّلوه قليلاً مما يكون معه على البداهة والفُجاءة من غير تقدُّمٍ في طلبه واختلافٍ إلى أهله وكانوا مع تلك المقامات والسياسات ومع تلك الكُلف والرِّياضات لا ينفكُّون في بعض تلك المقامات مِن بَعض الاستكراه والزَّلل ومن بعض التعقيد والخَطَل ومن التفنُّن والانتشار ومن التشديد والإكثار ورأوه مع ذلك يقول: إيّايَ والتّشادُق و: أبغضكم إليَّ الثَّرثارون المتفيهِقُون ثمّ رأوه في جميع دَهره في غاية التَّسديد والصَّوابِ التامّ والعصمة الفاضلة والتأييد الكريم علموا أنّ ذلك مِن ثمرة الحِكمة ونِتاج التوفيق وأنّ تلك الحكمةَ من ثمرة التقوى ونتاج الإخلاص وللسَّلف الطَّيب حكَم وخطبٌ كثيرة صحيحةٌ ومدخولة لا يخفى شأنها على نُقّاد الألفاظ وجهابذةِ المعاني متميِّزةٌ عند الرواة الخُلَّص وما بَلَغَنا عن أحدٍ من جميع الناس أنّ أحداً ولَّد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خُطبةً واحدة فهذا وما قبلَه حُجّةٌ في تأويل ذلك إن كان حقّاً وفي كتاب اللّه المنزّل أنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل مَنيحَةَ داودَ الحكمةَ وفصلَ الخطاب كما أعطاه إلانَةَ الحديد وفي الحديث المأثور والخبر المشهور أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: شُعيبٌ خطيبُ الأنبياء وعلَّم اللَّه سُليمانَ مَنِطقَ الطير وكلامَ النمل ولغاتِ الجنّ فلم يكن عزّ وجلّ ليعطيَه ذلك ثم يبتليَه في نفسه وبيانِه عن جميع شأنه بالقلة والمَعْجَزَةِ ثم لا تكون تلك القلّة إلاّ على الإيثار منه للقلَّة في موْضعها وعلى البعد من استعمال التكلف ومناسبة أهل الصّنعة والمشغوفين بالسُّمعة وهذا لا يجوز على اللَّه عزّ وجلّ فإن كان الذي رويتم من قوله: إنّا مَعْشَرَ الأنبياءِ بِكاءٌ على ما تأوّلتم وذلك أنّ لفظَ الحديث عامٌّ في جميع الأنبياء فالذي ذكرنا من حال داود وسليمان عليهما السلام وحالِ شُعيبٍ والنبي صلى الله عليه وسلم دليلٌ على بطلان تأويلكم وردّ عموم لفظ الحديث وهذه جملةٌ كافية لمن كان يريد الإنصاف وكان شيخٌ من البَصريِّين يقول: إنَّ اللَّه إنما جعل نبيَّه أُمِّيّاً لا يكتُب ولا يحسُب ولا ينسِب ولا يَقرِض الشِّعر ولا يتكلَّف الخَطابة ولا يتعمَّد البلاغة لينفرد اللَّه بتعليمه الفقهَ وأحكامَ الشريعة ويَقصُره على معرفة مصالح الدِّين دونَ ما تتباهى به العرب: من قِيافة الأثر والبشر ومن العلم بالأنواء وبالخيل وبالأنساب وبالأخبار وتكلُّف قولِ الأشعار ليكون إذا جاء بالقرآن الحكيم وتَكلَّم بالكلام العجيب كان ذلك أدلَّ على أنه منَ اللَّه وزعم أنّ اللَّه تعالى لم يمنعه معرفةَ آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقَصَ حظّاً من الحاسب الكاتب ومن الخطيب النَّاسب ولكن ليجعله نبيّاً وليتولَّى من تعليمه ما هو أزكى وأنمى فإنما نَقَصَه ليزيدَه ومنعَه ليعطيَه وحَجبه عن القليل ليجلِّيَ له الكثير وقد أخطأ هذا الشيخُ ولم يُرِدْ إلا الخير وقال بمبلغ علمِه ومنتهى رأيه ولو زعم أنّ أداة الحسابِ والكتابة وأداةَ قرضِ الشّعر ورواية جميع النَّسَب قد كانت فيه تامّة وافرة ومجتمعة كاملة ولكنه صلى الله عليه وسلم صرَف تلك القُوَى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوّة وأشبَه بمرتبة الرسالة وكان إذا احتاجَ إلى البلاغة كان أبلغَ البلغاء وإذا احتاجَ إلى الخطابة كان أخطب الخطباء وأنسبَ من كلِّ ناسب وأقوَف من كل قائف ولو كان في ظاهره والمعروف من شأنه أنه كاتب حاسب وشاعر ناسب ومتفرِّس قائف ثم أعطاه اللَّه برهاناتِ الرسالة وعلاماتِ النبوّة - ما كان ذلك بمانع من وجوب تصديقه ولُزوم طاعته والانقياد لأمره على سخطهم ورضاهم ومكروههم ومحبوبهم ولكنه أراد ألاّ يكون للشاغب متعلق عما دعا إليه حتى لا يكون دونَ المعرفة بحقه حجابٌ وإن رقّ وليكون ذلك أخفَّ في المؤونة وأسهل في المِحْنة فلذلك صرَفَ نفسَه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها فلما طال هِجْرانُه لقرض الشعر وروايته صار لسانُه لا ينطلِق به والعادة توأم الطبيعة فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطَقَ من كل مِنطيق وأنسبَ من كل ناسب وأقوَف من كل قائف وكانت آلته أوفَرَ وأداته أكمل إلاّ أنها كانت مصروفة إلى ما هو أردُّ وبين أن نضيف إليه العجز وبين أن نضيف إليه العادة الحسنة وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له فرقٌ ومن العَجَب أنّ صاحب هذه المقالة لم يرَه عليه السلام في حال مَعجزةٍ قط بل لم يره إلاّ وهو إنْ أطاَلَ الكلامَ قصَّر عنه كل مُطيل وإن قصّر القولَ أتى على غاية كل خطيب وما عَدِم منه إلاّ الخطَّ وإقامةَ الشّعر فكيف ذهب ذلك المذهبَ والظاهرُ من أمره عليه السلام خلاف ما توهّم وسنذكر بعضَ ما جاء في فضل الشعر والخوف منه ومن اللسان البليغ والمداراة له وما أشبه ذلك قال أبو عبيدة: اجتمع ثلاثةٌ من بني سعد يراجزون بني جَعْدة فقيل لشيخٍ من بني سعد: ما وقيل لآخر: ما عندك قال: أرجُز بهم يوماً إلى اللَّيل لا أَنكَف فقيل للآخر الثالث: ما عندك قال: أرجُز بهم يوماً إلى الليل لا أُنْكَش فلما سمعت بنو جَعدة كلامَهم انصرفوا وخلَّوهم قال: وبنو ضرار أحدُ بني ثعلبة بن سعد لما مات أبوهم وترك الثلاثة الشعراءَ صِبياناً وهم: شَمَّاخٌ ومُزَرِّدٌ وجَزْءٌ أرادت أمُّهم - وهي أمّ أوس - أن تَزَوَّج رجلاً يسمَّى أوساً وكان أوسٌ هذا شاعراً فلما رآهُ بنو ضرار بفناء أمِّهم للخِطبة تناوَلَ شمَّاخٌ حَبلَ الدّلو ثم متَح وهو يقول: أُمُّ أُوَيْس نَكحتْ أَوَيسا وجاء مزرِّدٌ فتناولَ الحبل فقال: أعْجَبَها حَدَارَةً وكَيْسَا وجاء جزءٌ فتناوَل الحبلَ فقال: أصْدَقَ مِنها لَجْبةً وتيساً فلما سمع أوسٌ رجَزَ الصِّبيان بها هرب وتركها قال أبو عبيدة: كان الرجلُ من بني نُمير إذا قيل له: ممن الرجل قال: نُميريّ كما ترى فما هو إلاّ أن قال جَرِيرٌ: من الوافر فغُضَّ الطرف إنَّكَ مِن نُمَيرٍ فلا كَعباً بلغْتَ ولا كِلابا حتّى صار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل قال: من بني عامر وسوف يزِيدُكُمْ ضَعَةً هِجائِي كما وَضع الهِجاءُ بَنِي نُميرِ فلما هجاهم أبو الرُّدَينيّ العكليّ فتوعَّدوه بالقتل قال أبو الرُّديني: من الوافر تَوَعَّدُنِي لتِقَتُلَني نُميرٌ متى قَتلت نُميرٌ من هَجاها فشدَّ عليه رجل منهم فقتله وما علمت في العرب قبيلة لقيت من جميع ما هُجِيت به ما لقيت نميرٌ من بيت جرير ويزعمون أنّ امرأةً مرّت بمجلسٍ من مجالس بني نُمير فتأمَّلها ناسٌ منهم فقالت: يا بني نمير لا قولَ اللَّه سمعتم ولا قولَ الشاعر أطعتم قال اللَّه تعالى: " قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِم " النور: 30 وقال الشاعر: من الوافر فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِن نُميرٍ فلا كَعْباً بَلغتَ ولا كِلابا وأخلِقْ بهذا الحديث أن يكون مولَّداً ولقد أحسن من وَلَّده وفي نُميرٍ شرف كثير وهل أهلك عَنَزَة وجَرْماً وعُكْلاً وسَلولَ وباهلة وغَنِيّاً إلاّ الهجاء وهذه قبائلُ فيها فضلٌ كثيرٌ وبعضُ النقص فمحَقَ ذلك الفضلَ كلَّه هجاءُ الشعراء وهل فَضَح الحَبَطاتِ مع شرف حَسَكة بن عَتَّاب وعبَّادِ بن الحصين وولدِه إلاّ قولُ الشّاعر: من الوافر رأيتُ الحُمْرَ مِن شَرِّ المطايا كما الحَبَطاتُ شَرُّ بني تَميم إنَّ أباناً فَقْحة لِدارِمِ كما الظُّلَيمُ فَقحَةُ البراجم وهل أهلك بني العَجْلان إلاّ قولُ الشاعر: من الطويل إذا اللَّهُ عادَى أهلَ لُؤمٍ ودِقّةٍ فعادَى بني العجلانِ رَهطَ ابنِ مُقبلِ قُبَيِّلَةٌ لا يَغدِرون بِذِمَّةٍ ولا يظلِمُون النَّاسَ حَبَّةَ خَردل ولا يَرِدُونَ الماءَ إلاَّ عَشِيَّةً إذَا صدر الوُرَّادُ عَن كلِّ مَنهلِ وأمَّا قول الأخطلِ: من الطويل وَقد سَرَّني مِن قيسِ عَيلانَ أنَّنِي رأيتُ بني العَجلانِ سادُوا بني بَدرِ فإنّ هذا البيتَ لم ينفع بني العجلان ولم يضرَّ بني بدر قال أبو عبيدة: كان الرجل من بني أنف النَّاقة إذا قيل له: ممن الرجل قال: من بني قُرَيعٍ فما هو إلاّ أن قال الحُطَيئة: من البسيط قومٌ هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرُهُم ومَن يُساوِي بأَنفِ النَّاقةِ الذَّنبا وصار الرّجل منهم إذا قيل له: ممن أنت قال: من بني أنْف الناقة وناسٌ سلموا من الهجاء بالخمول والقلّة كما سلمت غسَّانُ وغَيلانُ مِن قبائل عمرو بن تميم وابتليت الحَبَطاتُ لأنّها أنْبَه منها شيئاً والنباهة التي لا يضرُّ معها الهجاء مثل نباهة بني بدر وبني فزارة ومثل نباهة بني عُدُس بن زيد وبني عبد اللَّه بن دارم ومثل نباهة الدّيّان بن عبد المدان وبني الحارث بن كعب فليس يسلم من مضرّة الهجاء إلاّ خاملٌ جدّاً أو نبيه جدّاً وقد هُجيتْ فزارة بأكل أير الحِمار وبكثرة شَعر القفا لقول الحارث بن ظالم: من الوافر فما قوْمِي بثَعْلبة بنِ سَعدٍ ولا بفَزازةَ الشُّعرِ الرِّقابا ثم افتخر مفتخرهُم بذلك ومدحهم به الشاعر فقال مُزَرِّدُ بنُ ضِرار من الوافر مَنيعٌ بين ثَعلبةَ بن سعدٍ وبين فَزَارةَ الشُّعرِ الرِّقابِ فما مَنْ كانَ بينهما بِنِكْسٍ لَعَمْرُكَ في الخطوبِ ولا بِكابِ وأمّا قصّة أير الحمار فإنما اللوم على المُطْعِمِ لرفيقه مالا يعرفُه فهل كان على حَذَفٍ الفزاريِّ في حقِّ الأنفة أكثرُ مِن قتلِ مَن أطعَمَه الجُوفان من حيثُ لا يدري فقد هُجوا بذلك وشرفُهم وافر وقد هُجيت الحارثُ بن كعب وكتبَ الهيثمُ بن عديّ فيهم كتاباً فما ضعضع ذلك منهم حتى كأنْ قد كتبه لهم ولولا الرَّبيع بن خُثَيْم وسفيانُ الثَّوريّ ما عَلِمَ الناسُ أنَّ في الرِّباب حيّاً يقال لهم بنو ثَور وفي عُكلٍ شعرٌ وفصاحة وخيلٌ معروفةُ الأنساب وفُرسانٌ في الجاهلية والإسلام وزعم يونسُ أنّ عكلاً أحسنُ العرب وجوهاً في غِبِّ حرب وقال بعضُ فتّاك بني تميم: من خَليلِي الفَتى العُكليُّ لم أرَ مِثلَه تَحَلَّبُ كفّاهُ نَدىً شائع القِدْرِ كأنّ سُهيلاً حين أَوْقَدَ نارَهُ بعَليَاءَ لا يَخفَى على أحدٍ يَسْرى ولم أكتب هذا الشعرَ ليكون شاهداً على مقدار حظِّهم في الشرف ولكن لنضمَّه إلى قول جِرانِ العَود: من الطويل أَراقِبُ لَمْحاً من سَهَيْلٍ كأنّه إذا ما بدا من آخِر الليل يَطرفُ وربما أُتيت القبيلة إذا برَّزَتْ عليها إخْوتُها كنحو فقَيْم بن جَرير بن دارِم وزيد ابن عبد اللَّه بن دارم وكنحو الحرماز ومازِن ولذلك يقال: إنّ أصلحَ الأمور لمن تكلّفَ علم الطبّ ألاّ يحسن منه شيئاً أو يكونَ من حُذّاق المتطبِّبين فإنه إن أحسنَ منه شيئاً ولم يبلغ فيه المبالغَ هلكَ وأهلَكَ أهله وكذلك العِلمُ بصناعة الكلام وليس كذلك سائرُ الصناعات فليس يضرّ مَن أحسَنَ بابَ الفاعل والمفعول به وبابَ الإضافة وبابَ المعرفة والنكرة أن يكونَ جاهلاً بسائر أبواب النَّحو وكذلك مَن نظر في عِلم الفرائض فليس يضرُّ مَن أحكم باب الصُّلب أن يجهل باب الجَدّ وكذلك الحِساب وهذا كثير وذكروا أن حَزن بن الحارث أحد بني العنبر ولد مِحْجناً فولد مِحجنٌ شعيثَ بن سهم فأُغير على إبله فأتى أوسَ بن حجرٍ يستنجده فقال له أوس: أوَ خيرٌ من ذلك أحضِّض لك قيس بن عاصم وكان يقال إن حزن ابن الحارث هو حزن بن منقر سائل بها مولاك قيسَ بنَ عاصمٍ فمولاكَ مَوْلَى السَّوءِ إنْ لم يُغيِّرِ لعمرُكَ ما أدرِي أمِنْ حَزْنِ مِحجَنٍ شُعَيثُ بن سهم أم لِحَزنِ بن مِنقرِ فما أنتَ بالمولى المضيَّعِ حقُّه وما أنتَ بالجارِ الضعيفِ المُسَتَّرِ فسعى قيسٌ في إبله حتى ردَّها على آخرها وقال الآخر: من البسيط ألْهَى بَني تغلبٍ عن كلِّ مَكرُمةٍ قصيدةٌ قالها عمرُو بنُ كُلثومِ ومما يدلُّ على قدر الشعر عندهم بُكاء سيِّد بني مازنٍ مخارق بن شهابٍ حين أتاه محرز بن المُكَعبَرِ العنبريُّ الشاعر فقال: إنّ بني يربوع قد أغاروا على إبلي فاسعَ لي فيها فقال: وكيف وأنت جار وَرْدانَ بنِ مَخْرَمة فلما ولَّى عنه محرزٌ محزوناً بكى مخارقٌ حتى بلَّ لحيته فقالت له ابنتُه: ما يبكيك قال: كيف لا أبكي وقد استغاثني شاعرٌ من شعراء العرب فلم أُغِثْه واللَّه لئن هجاني ليَفضَحَنّي قولُه ولئن كفّ عني ليَقتلنِّي شكرهُ ثم نهض فصاح في بني مازِنٍ فرُدت عليه إبله وذكر وَرْدانَ الذي كان أخفره فقال: من الطويل أقولُ وقد بُزّتْ بتِعْشارَ بَزّةً لوَرْدانَ جِدَّ الآنَ فهيا أو العَبِ فعَضَّ الذي أبقَى المَواسِي مِن أمِّهِ خفيرٌ رآها لم يُشمِّرْ ويَغضَبِ إذا نزَلَتْ وَسْطَ الرِّبابِ وحولَها إذا حُصِّنَتْ ألْفَا سِنانٍ مُحَرَّبِ ستَعرِفُها وِلدانُ ضَبَّةَ كلِّها بأعيانِها مردودةً لم تُغَيَّبِ قال: وفد رجلٌ من بني مازن على النعمان بن المنذر فقال له النُّعمان: كيف مخارقُ بنُ شِهابٍ فيكم قال: سيِّد كريم وحسبك من رجل يمدحُ تَيْسَه ويهجو ابنَ عمِّه ذهب إلى قوله: من الطويل تَرَى ضَيْفَها فيها يَبيتُ بِغِبطةٍ وجارُ ابنِ قَيسٍ جائعٌ يتحوَّبُ وقال: ومن قدر الشِّعر وموقعِه في النّفع والضَّرِّ أنّ ليلَى بنتَ النضْرِ بن الحارث ابنِ كلَدَة لمّا عَرَضت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يطوفُ بالبيت واستوقفتْه وجذبَت رِداءَه حتى انكشف مَنْكِبه وأنشدَتْه شِعرَها بعد مقتل أبيها وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لو كنتُ سمعتُ شعرها هذا ما قتلته والشعر: من الطويل يا راكباً إنّ الأُثَيلَ مَظِنَّةٌ من صُبْحِ خامسةٍ وأنتَ موفَّقُ أبلِغْ بها مَيْتاً بأن قصيدةً ما إنّْ تَزالُ بها الركائبُ تَخْفِقُ فليسمعَنَّ النَّضْرُ إنْ ناديتُهُ إن كان يَسمعُ ميِّتٌ لا يَنطِقُ ظلَّت سيوفُ بني أبيهِ تُنوشُه للَّهِ أرحام هُناكَ تَشقَّقُ أمُحَمَّدٌ ها أنتَ ضَنْءُ نَجِيبَةٍ في قوْمِها والفحلُ فحلٌ مُعرِقُ ما كانَ ضرّكَ لوْ منَنْتَ ورُبَّما مَنَّ الفتَى وهْوَ المَغيظُ المُحْنَقُ فالنَّضر أقربُ مَن تركتَ قرابةً وأحقُّهم إن كان عتقٌ يعتقُ قال: ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السبّ عليهم وتخوّفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب ويسبَّ به الأحياءُ والأموات أنهم إذا أسَرُوا الشاعر أخذوا عليه المواثيقَ وربما شدُّوا لسانَه بنِسْعَةٍ كما صنعوا بعبدِ يغوثَ بن وقّاصِ الحارثيّ حين أسرته بنو تيم يوم الكُلاب وهو الذي يقول: من الطويل أقُولُ وقد شَدُّوا لساني بنِسْعَةٍ أمَعشَر تَيمٍ أطلِقوا من لسانِيا وتَضْحَكُ مِنِّي شَيخةٌ عَبشَمِيّة كأنْ لم تَرَى قبلي أسيراً يَمَانِيا كأنِّيَ لم أركب جَواداً ولم أقُلْ لخيلي كُرِّي كرَّةً عن رِجالِيا فيا راكباً إمّا عَرَضْتَ فبلِّغَنْ نَدَامايَ منْ نَجْرانَ أنْ لا تلاقِيا أبا كَرِبٍ والأيهمين كِلَيهِما وقيساً بأعْلَى حَضْرَمَوْتَ اليَمانِيا وكان سألهم أن يُطلِقوا لسانَه لينوحَ على نفسه ففعلوا فكان ينوح بهذه الأبيات فلما أنشد قومَه هذا الشِّعر قال قَيس: لبّيك وإن كنت أخَّرتَني وقيل لِعُبَيْدِ اللَّه بنِ عبدِ اللَّه بنِ عتبة بن وقال مُعاويةُ لِصُحَارٍ العبديّ: ما هذا الكلامُ الذي يظهر منكم قال: شيء تجيش به صدورُنا فتقذفُه على ألسنتنا وقال ابنُ حرْب: من أحسَنَ شيئاً أظهره وفي المثل: من أحَبّ شيئاً أكثر من ذِكره وقال: خاصم أبو الحُوَيرِثِ السُّحَيْمِيُّ حمزةَ بنَ بِيض إلى المُهاجرِ بن عبدِ اللَّه في طَويٍّ له فقال أبو الحويرث: من الطويل غَمّضْتُ في حاجةٍ كانَت تُؤَرِّقُني لولا الّذِي قُلتَ فِيها قَلَّ تغمِيضِي قال: وما قلتُ لك فيها قال: حَلفتَ باللَّه لي أنْ سوف تُنصِفُني فساغَ في الحلقِ ريقٌ بَعد تجريض قال: وأنا أحلفُ باللَّه لأُنصفنَّك قال: فاسأَلْ أُلَى عن أُلَى أنْ ما خُصومتُهم أم كيف أنتَ وأصحابُ المَعاريضِ قال: أُوجِعُهم ضرباً قال: فاسأَلْ لُجَيْماً إذا وافاكَ جمعُهمُ هل كان بالبئرِ حوضٌ قبلَ تحويض قال: فتقدم الشهود فشهدت لأبي الحُويرث قال: فالتفت إلى ابن بِيضٍ فقال: من الطويل إن كنتَ أنَبضْتَ لي قوساً لِترمِيَنِي فقد رميتُكَ رمياً غيرَ تَنبيضِ أو كنتَ خَضخَضتَ لي وَطْباً لتسقِيَني فقد سقيتُكَ وَطباً غير ممخُوضِ إنَّ المُهاجِرَ عَدْلٌ في حكُومَتِهِ والعدلُ يَعدِلُ عندي كلَّ عِرِّيضِ قال وتزوّجَ شيخ من الأعراب جارية من رهطه وطَمِعَ أن تلِدَ له غُلاماً فولدتْ له جاريةً فهجَرَها وهجر منزلها وصار يأوِي إلى غير بيتِها فمرَّ بخبائها بعد حولٍ وإذا هي ترقّص بُنَيَّتَها منه وهي تقول: من الرجز ما لأبِي حَمزَةَ لا يَأْتينا يَظلُّ في البيتِ الذي يَلِينا غَضْبانَ أن لا نلِدَ البَنِينا تَاللَّهِ ما ذلكَ في أيْدِينا وإنَّما نأْخُذُ ما أُعْطِينا فلما سمع الأبيات مرَّ الشيخُ نحوهما حُضْراً حتى ولَج عليهِما الخباء وقبّل بنيَّتَها وقال: ظلمُتكما وربِّ الكعبة وقال مُسلم بن الوليد: من الطويل فإنّي وإسماعيلَ عند فِراقِنا لكالجفنِ يومَ الرَّوع ِ فارَقَه النَّصْلُ أمُنتجِعاً مَرْواً بأثقالِ هَمِّهِ دعِ الثِّقْلَ واحمِلْ حاجةٍ مالها ثِقْلُ ثَنَاءً كعَرْفِ الطِّيبِ يُهْدَى لأهلِهِ وليسَ لهُ إلاّ بَني خالدٍ أهلُ وقال ابن أبي عُيَينةَ: من مخلع البسيط هلْ كنتَ إلاّ كلحْمِ مَيْتٍ دعا إلى أَكلِهِ اضْطِرارُ وقال الآخر: من الطويل لئن حَبَس العَباسُ عنَّا رَغيفَهُ لَمَا فاتنا من نعمةِ اللَّهِ أكثرُ وقال أبو كعب: كان رجل يُجري على رجلٍ رغيفاً في كلِّ يوم فكان يقول إذا أتاه الرّغيف: لعنَك اللَّه ولَعَنَ مَنْ بَعَثَك ولعنَني إن تركتُك حَتَّى أُصِيبَ خيراً منك وقال بشار: من الطويل إذَا بَلغَ الرَّأيُ النَّصِيحةَ فاستَعِنْ بِرأْيِ نَصِيحٍ أو نَصاحِة حازِمِ ولا تحسَبِ الشُّورَى عليكَ غضاضةً مكانُ الخوَافي نافعٌ للقَوادِمِ وخلِّ الهُوْيْنَى للضَّعِيفِ ولا تكنْ نَؤُوماً فإنَّ الحزمَ ليس بنائمِ وأَدْنِ على القُربَى المُقَرِّب نَفْسَهُ ولا تُشْهِدِ الشُّورَى امرَأً غيرَ كاتِمِ وما خَيرُ كف أمسَكَ الغُلُّ أُختَها وما خَيرُ سيفٍ لم يُؤَيَّدْ بِقائِم فإنَّكَ لا تستَطرِد ُ الهمَّ بِالمُنَى ولا تَبْلَغُ العُلْيا بِغيرِ المَكارِمِ وقال آخر: من الوافر تُعرِّفُني هُنَيدةُ مَن بَنُوهَا وأعْرِفُها إذا اشْتَدَّ الْغُبَارُ فلا تَعجَلْ عليهِ فإنَّ فِيهِ منافِعَ حِينَ يَبتلُّ العِذَارُ أنَا ابْنُ المَضْرَحِيِّ أبي شُلَيل وهل يَخْفَى على النَّاسِ النَّهارُ ورِثْنا صُنْعَهُ ولِكُلِّ فَحلٍ على أولادِهِ مِنه نُجارُ وقال أعشَى هَمْدَانَ في خالدِ بن عتَّابِ بن وَرقاء: من الوافر تُمنِّينِي إمارَتَها تَميمٌ وما أمرِي وأمرُ بَني تميم وكان أبُو سُليمانٍ خَلِيلي ولكنَّ الشِّراكَ مِنَ الأدِيمِ أتيْنا أصبَهانَ فَهزَّلَتْنا وكُنَّا قبلَ ذلكَ في نعِيم أتَذْكُرُنا ومَرَّةَ إذْ غَزونا وأنتَ على بُغيلِكَ ذِي الوسوم ويركَبُ رأسَهُ في كُلِّ وحلٍ ويعثُرُ في الطَّريق المستقيمِ وليسَ عليكَ إلاَّ طَيلَسانٌ نُصيبيٌّ وإلاَّ سَحْقُ نِيمِ وقال آخر: من الوافر فلَستُ مُسَلِّماً مَا دُمتُ حيّاً على زيدٍ بتسلِيم ِ الأميرِ أَمِيرٌ يأْكُل الفالُوذَ سِرّاً ويُطعِمُ ضَيفهُ خبز الشَّعيرِ وقال آخر: من البسيط دَع عنكَ مَرْوانَ لا تطُلبْ إمارتَه ففِيكَ راعٍ لها ما عِشت سُرسُورُ ما بالُ بُردِكَ لم يَمْسَسْ حَواشيَهُ من ثَرْمِداءَ ولا صَنْعاءَ تحبِيرُ وقال ابن قَنَان المحارِبيّ: من الكامل أقُولُ لمَّا جئتُ مجلِسَهُم قبَحَ الإلهُ عمائمَ الخَزِّ لولا قُتَيبَةُ ما اعتجَرتَ بِها أبداً ولا أقعَيتَ في غَرزِ عَجَباً لِهذا الخزِّ يَلبَسهُ مَن كان مشتاقاً إلى الخُبزِ مَن كان يَشتُو في عَباءَتِهِ مُتقبِّضاً كتقبُّضِ العَنزِ وقال ثابِتُ قُطنةَ في رجلٍ كان المهلَّب ولاّه بعض خُراسان: من الكامل ما زالَ رأْيُكَ يا مُهلَّبُ فاضِلاً حتَّى بَنيتَ سُرادِقاً لوكيعِ وجعلتَهُ رَبّاً على أربَابِهِ ورفَعتَ عَبداً كانَ غيرَ رَفيع لَو رَأي أبُوهُ سُرادقاً أحدثتَهُ لبَكَى وَفاضَتْ عَينُهُ بدُموع وقال ابن شَيْخان مولى المغيرة في بني مُطيع العدوِّيين: من الوافر وخَزَّهُمُ الَّذِي لم يَشترُوهُ ومجلِسَهُمْ بِمُعتلَجِ الظَّلامِ وإنْ جنَفَ الزَّمانُ مَددتُ حَبلاً متِيناً مِن حِبالِ بني هِشامِ وَرِيقٌ عُودُهُمْ أَبداً رطيبٌ إذا ما اغبَرَّ عِيدانُ اللِِّئامِ وقال آخر: من الوافر لِمَن جُزُرٌ يُنَحِّرُها سُويدٌ ألا يا مُرَّ للمجدِ المُضاع كأنَّكَ قَد سَعَيتَ بذِمَّتَيهِمْ وكنتَ ثِمالَ أَيتَامٍ جِياعِ وقال: من البسيط سُبحَانَ مَن سَبَّحَ السَّبعُ الطِّباقُ له حتَّى لَهرثَمةَ الذُّهْلِيِّ بَوّابُ وأنشدنا للأُحَيْمِر: من الكامل بِأَقَبَّ مُنْصَلِت اللَّبانِ كأنَّهُ سِيدٌ تَنصَّلَ مِن جُحُورِ سَعالِي وقال خَلَفٌ: لَمْ أرَ أجمعَ من بيت امرئ القيس: من المتقارب أَفَادَ وجادَ وسادَ وزادَ وقادَ وذادَ وعادَ وأَفْضَلْ ولا أجمعَ من قوله: من الطويل لهُ أَيطَلاَ ظَبي وساقا نعامَةٍ وإرخاءُ سِرحانِ وتَقرِيبُ تَنْفُلِ رمَى الفقرُ بِالفِتيانِ حتَّى كَأَنَّهُمْ بِأَقطارِ آفاقِ البِلادِ نُجومُ وإنَّ امرَأ لم يُقْفِرِ العام َ بَيتُهُ ولم يَتخدَّدْ لحمُهُ لَلَئيمُ وقال عبد العزيز بنُ زُرارَة الكِلابيُّ: من البسيط وليلةٍ مِن لَيالي الدَّهرِ صالِحةٍ باشرتُ في هَولِها مَرأِى ومُستمَعا ونَكبةٍ لَو رمَى الرَّامِي بِها حَجراً أصمَّ مِن جَندَلِ الصَّمَّانِ لانصَدعا مَرَّتْ عَلَيَّ فلم أطرَح لَها سَلَبي ولا استكَنْتُ لها وَهناً ولا جَزَعا وما أزال على أَرجاء مَهْلِكَةٍ يُسائِلُ المَعشَرُ الأَعدَاءُ ما صنَعا ولا رَمَيتُ عَلى خَصم بِفاقِرَةٍ إلاَّ رُمِيتُ بِخَصمٍ فُرَّ لِي جَذَعا ما سُدَّ مُطَّلَعٌ يُخشَى الهلاكُ به إلاَّ وجدتُ بِظَهرِ الغيبِ مُطَّلَعَا لا يَملأُ الهول ُ قلبِي قَبلَ موقعه ولا أضِيقُ به صدراً إذا وقعا وقال آخر: من الطويل لقد طالَ إعراضِي وصفحِي عَن الَّتي أُبَلَّغُ عنكُمْ والقُلوبُ قُلوبُ وطالَ انتِظارِي عطفة الرِّحِمِ مِنكمُ ليَرْجِعَ وُدٌّ أو يُنيبَ مُنِيبُ وإنَّ لِسانَ الباحِثِ الدَّاءَ ساخِطاً بَني عَمِّنَا ألوَى البيانِ كَذُوبُ وقال الأشهبُ بنُ رُمَيلة: من الطويل إنَّ الأُلى حانت بِفَلْجٍ دماؤُهُمْ هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أُمَّ خالدِ هُمُ ساعدُ الدَّهرِ الذِي يُتَّقَى بِهِ وما خير كَفٍّ لا تنُوءُ بِسَاعِدِ أُسُودُ شرىً لاقتْ أسُودَ خَفِيَّةٍ تَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأساوِدِ قوله: هم ساعِدُ الدَّهر إنّما هو مثل وهذا الذي تسمِّيه الرواة البديع وقد قال الراعي: من الطويل هُمُ كاهِلُ الدَّهْرِ الَّذي يُتَّقَى بِه ومَنكِبُهُ إنْ كان لِلدَّهرِ مَنكبُ وقد جاء في الحديث: موسى اللَّه أحَدُّ وساعد اللَّه أشدّ والبديع مقصورٌ على العرب ومن أجله فاقت لُغَتُهم كلَّ لغة وأرْبَتْ على كلِّ لسان والرَّاعِي كثير البديع في شعره وبَشَّارٌ حسن البديع والعتَّابيّ يذهب في شعرِه في البديع مذهبَ بشَّار وقال كعب بن عديّ: من الكامل شُدَّ العصابَ على البريءِ بِمَنْ جَنَى حتَّى يكونَ لِغيرِهِ تنكيلا والجهلُ فِي بعضِ الأمور إذا اغتَدَى مُستَخرِجٌ للجاهِلينَ عُقولا إنْ عُدتَ واللَّهِ الَّذي فوقَ عرشِهِ منحتُكَ مَسنونَ الغِرارينِ أَزْرَقا فإنَّ دواءَ الجهلِ أَن تُضرَبَ الطّلَى وأَنْ يُغمسَ العِرِّيضُ حتَّى يُغرَّقا وقال مبذولٌ العذري: من الطويل ومولىً كضِرسِ السُّوءِ يُؤْذيك مَسُّهُ ولا بُدَّ إنْ آذاك أنَّك فاقِرُهْ دَوِي الجَوفِ إن يُنزَعْ يَسؤك مكانُهُ وإنْ يبقَ تُصبِحْ كلَّ يَومٍ تَحاذرُه يُسِرُّ لكَ البغضاءَ وهْو مُجامِلٌ وما كلُّ من يَجنى عليكَ تُساورُه وما كلُّ مَنْ مَدَّدتَ ثوبَكَ دُونَهُ لِتَسْتُرَه مِمَّا أتى أَنت ساترُه وقال آخر: أطالَ اللَّه كَيْسَ بني رَزين وحُمْقِي إنْ شَرَيْتُ لهمْ بدَينِ أَأَكتُبُ إبْلَهُم شاءً وفيها بِرَيْعِ فِصالِها بِنْتا لَبُونِ فما خُلِقُوا بكَيْسِهِم دُهاةً ولا مُلَحاءَ بَعْدُ فيعجِبُوني وقال آخر: عفاريتاً عَلَيَّ وأَكْلَ مالِي وعجزاً عنْ أُناسٍ آخرِينا وقالت رُقيَّةُ بنت عبد المطَّلب في النبي صلى الله عليه وسلم: من الكامل أبُنيَّ إني رَابَني حَجَرٌ يَغْدُو بكَفِّكَ حيثما تَغْدُو وأَخافُ أَن تَلْقَى غَوِيَّهُمُ أوْ أَنْ يُصيبَكَ بَعدُ مَن يعدُو ولما دخل مكة لقيه جواريها يقُلْن: من مجزو الرمل طَلع َ البَدرُ علينا مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَداعْ وجَبَ الشُّكرُ علينا مَا دعا لِلَّهِ داعْ يضاف إلى باب الخطب وإلى القول في تلخيص المعاني والخروج من الأمر المشبه بغيره قولُ حسانَ بنِ ثابتٍ الأنصاريّ: من الخفيف إنَّ خالِي خطيبُ جابِيةِ الجَوْ - لانِ عِندَ النُّعمانِ حِينَ يقومُ وهُو الصَّقرُ عِندَ باب ابنِ سَلمَى يومَ نُعمانُ في الكُبُولِ مُقِيمُ وَسَطَتْ نُسبتي الذَّوائِبَ مِنهمْ كلُّ دارٍ فِيها أَبٌ لِي عظيمُ وأبِي في سُمَيْحَة القائِلُ الفا - صِلُ يومَ التفّتْ عليهِ الخصومُ يَصِلُ القولَ بالبَيانِ وذُو الرَّأْ - يِ مِنَ القومِ ضالِعٌ مكعُومُ وليَ البأسُ مِنكُمُ إذْ أبَيتمْ أسرةٌ مِن بَني قصيٍّ صَمِيمُ وقُريشٌ تجُولُ مِنَّا لِواذاً أنْ يُقِيمُوا وخَفَّ مِنها الحلومُ لم يطق حَملَهُ العَواتِقُ مِنهُمُ إنَّما يحمل اللِّواءَ النُّجومُ ولما دَفن سليمان بن عبد الملك أيّوبَ ابنَه وقف ينظر إلى القبر ثم قال: من السريع كُنتَ لنا أُنْساً ففارقتنا فالعيشُ مِن بعدك مُرَّ المذاقْ وقُرِّبت دابّته فركِب ووقف على قبره وقال: من الطويل وُقُوفٌ عَلَى قبرٍ مُقِيم بِقفْرَةٍ مَتاعٌ قِليلٌ مِن حبيبٍ مُفارِقِ ثم قال: عليك السلام ثم عطَفَ رأسَ دابّته وقال: من الطويل فإنْ صبَرْتُ فلم ألفِظْكَ مِن شِبَعٍ وإنْ جزِعتُ فعِلْقٌ مُنْفِسٌ ذَهبا المدائني قال: لما مات محمد بن الحجاج جزِع عليه فقال: إذا غسَّلتموه فأعلموني فلمّا نظر إليه قال: من الكامل الآنَ لمّا كُنتَ أكرمَ مَن مشَى وافتَرَّ نابُكَ عن شَباةِ القارِحِ وتكامَلَتْ فِيكَ المروءَةُ كُلُّها وأعنْتَ ذلِكَ بالفَعالِ الصَّالحِ ثم أتاه موتُ أخيه محمّدِ بنِ يوسفَ فقال: من الطويل إذا ما لِقيتُ اللَّهَ عنِّي راضِياً فإنَّ شِفَاءَ النَّفْسِ فيما هُنالِكِ وتمثّل مُعاوية في عبد اللَّه بن بُدَيل: من الطويل أخُو الحَربِ إن عَضَّتْ بِهِ الحَربُ عَضَّها وإن شَمَّرت عن ساقِها الحربُ شَمَّرا ويدنو إذا ما الموتُ لم يَكُ دُونهُ قِدَى الشِّبْرِ يَحمِي الأَنفَ أن يتأخَّرا ورأى معاوية هُزالَه وهو مُتَعرٍّ فقال: من الرجز أَرَى اللَّيالِي أَسْرَعَت في نَقضي أَخذنَ بعضِي وتركنَ بَعضِي حَنَينَ طولي وتركْنَ عَرْضِي أقعدنَني مِنْ بعدِ طُولِ النّهض وتمثل عبدُ الملك حين وثب بعمرو بن سعيد الأشدق: من الكامل سَكَّنْتُهُ لِيقِلَّ مِنِّي نَفْرُه فأَصُولَ صَولَة حازِمٍ مُسْتمِكنِ غضباً ومَحْمِيةً لِنَفْسِيَ إنَّهُ ليسَ المسِيءُ سبِيلُهُ كالمُحسنِ وسمع معاويةُ رجلاً يقول: من الرجز ومَنْ كريمٌ ماجدٌ سَمَيْدَعُ يُؤْتَى فَيُعطِي مِن نَدىً ويمْنَعُ فقال: هذا منا وهذا واللَّه عبدُ اللَّه بن الزُّبير المدائني قال: قال معاوية: إذا لم يكن الهاشميُّ جواداً لم يُشبِه قومَه وإذا لم يكن المخزوميُّ تَيَّاهاً لم يُشبِه قومه وإذا لم يكن الأمويُّ حليماً لم يُشبه قومَه فبلغ قولُه الحسنَ بنَ عليّ رضي اللَّه تعالى عنهما فقال: ما أحسَنَ ما نظر لنفسه أراد أن تجود بنو هاشم بأموالها فتفتقر إلى ما في يديه وتزهى بنو مخزوم على الناس فتبغض وتُشنَأ وتحلُم بنو أميّة فتحَبّ وقال بشار: من الكامل أَحسِنْ صِحَابتَنا فإنََّكَ مُدْرِكٌ بعضَ اللّبانَةِ باصطِناعِ الصَّاحب وَإذا جَفوتَ قَطَعْتُ عَنكَ لُبانتي والدَّرُّ يَقطعُهُ جَفاءُ الحالِبِ تأْتِي اللَّئيمَ وما سَعَى حاجاتُهُ عَددَ الحَصَى ويَخِيب سعيُ الدَّائِبِ وأنشد: من الطويل إذا ما أُمُورُ النّاس رَثّتْ وضُيِّعَتْ وجدْتُ أُمُورِي كلَّها قَدْ رَمَمْتُها وقال أعرابيّ: من الطويل نَدِينُ ويَقضِي اللَّهُ عَنَّا وقَد نَرَى مكان رِجالٍ لا يدِينُونَ ضُيَّعا وقال أعرابيّ: من الطويل وليس قَضاءُ الدَّيْنِ بالدَّينِ راحةً ولكِنَّهُ ثِقْلٌ مُمِضٌّ إلى ثِقلِ وأنشد أبو عبيدة لعُبيدٍ العنبريّ وهو أحد اللُّصوص: يا ربِّ عفْوَك عن ذِي توبةٍ وَجِلٍ كأنَّهُ مِن حِذارِ النّاسِ مجنونُ وقال أعرابي: من البسيط يا ربِّ قد حلف الأقوام واجتهدوا أيمانهم أنني من ساكني النارِ أيَحْلفُونَ على عمياءَ وَيْلَهُمْ جهلاً بِعفوِ عظِيمِ العفوِ غفَّارِ وقال أعرابيّ وهو محبوس: من الطويل أقيداً وسجناً واغتِرَاباً وفُرقةً وذكرى حبيب إنَّ ذا لعظيمُ وإنَّ امرَأً دَامَت مواثِيقُ عهدِهِ على كلِّ ما لاقيتُهُ لكَرِيمُ وقال أعرابي: من الطويل يا أُمَّ عَمرٍو بَيِّني أنتِ كُلَّما تَرفَّعَ حادٍ أو دعا كلُّ مُسلِمِ نَظَرْتُ إليْها نظرة مَا يسُرُّنِي وإنْ كُنتُ محتاجاً بها أَلفُ دِرْهَم وقال الشاعر: وما كَثَرَةُ الشَّكوَى بأمرِ حَزامةٍ ولا بُدَّ مِن شكوَى إذا لم يكن صَبرُ ومثله: من الطويل وأَبْثثتُ بَكراً كلَّ ما فِي جوانحي وجرَّعْتُهُ مِنْ مُرِّ ما أَتَجَرَّعُ ولا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إلى ذِي حَفيظَة إذَا جعلَتْ أَسْرارُ نفْسِي تَطلَّعُ حَسدُوا الفتَى إذ لمْ يَنالُوا سعيَهُ فالقومُ أعداءٌ لهُ وخُصومُ كضرائِرِ الحَسناءِ قُلْنَ لِوجهِها حَسَداً وبغياً: إنَّه ُ لَدمِيمُ وقال بُزُرْجمهر: ما رأينا أشبه بالملوم من الحاسد وقال الأحنفُ بنُ قَيس: لا راحة لحسود وقال الشعبي: الحاسد منغَّص بما في يد غيره وقال اللَّه تبارك وتعالى " ومِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَد " الفلق: 5 وقال بعضهم يمدح أقواماً: من البسيط مُحَسَّدُونَ وشرُّ النًّاسِ منزِلةً مَنْ عاش في النَّاسِ يوْماً غيرَ محسودِ وقال الشاعر: الرِّزْقُ يَأْتِي قَدَراً على مَهَلْ والمرءُ مطبوعٌ على حُبِّ العَجَلْ وقالوا: من تمام المعروف تعجيلُه ووصف بعضُ الأعراب أميراً فقال: إذا أوعد أخّر وإذا وعَدَ عجَّل وعيده عفو ووعدُه إنجاز وقال تبارك وتعالى: " وَكَانَ الإنْسانُ عَجُولاً " الإسراء: 11 ودخل عَمرو بنُ عُبَيدٍ على المنصور وهو يومئذٍ خليفة - وروى هذا الحديث العُتبيُّ عن عتبة بن هارون قال: شهدته وقد خرج مِن عنده فسألتُه عمّا جرى بينهما فقال: رأيتُ عنده فتىً لم أعرفْه فقال لي: يا أبا عثمان أتعرفُه فقلت: لا فقال: هذا ابنُ أمير المؤمنين ووليُّ عهد المسلمين فقلت له: قد رضيتَ له أمراً يصير إليه إذا صار وقد شُغِلتَ عنه فبكى ثم قال: عِظْني يا أبا عثمان فقلت: إنّ اللَّه قد أعطاك الدُّنيا بأسْرِها فاشترِ نفسَك منه ببعضها فلو أنّ هذا الأمرَ الذي صار إليك بقي في يدَيْ مَن كان قبلك لم يصِلْ إليك وتذكَّرْ يوماً يتمخّض بأهله لا ليلةَ بعده المدائني قال: سمعت أعرابيّاً يسأل وهو يقول: رَحِم اللّه امرأ لم تُمجّ أذنُه كلامي وقدّم لنفسه مَعاذةً من سوء مقامي فإنّ البلادَ مجدبة والحالَ سيِئة والعقلَ زاجر ينهى عن كلامكم والفقر عاذر يحملني على إخباركم والدَّعاءَ أحدُ الصَّدَقَتين فرحم اللَّه امرأ أمر بمَيْرِ أو دعا بخير وقال رجل من طيّئ: من الطويل قَتَلنا بقَتلانا مِنَ القوم مِثلَهُمْ كِراماً ولم نأْخُذْ بهمْ حَشَفَ النَّخْلِ وقال آخر: من الطويل قَتلْنا رجالاً من تَميمٍ أخايراً بقَومٍ كِرامٍ مِنْ رجالٍ أخايرِ وسئل بعضُ العرب: ما العقل قال: الإصابة بالظُّنون ومعرفة ما لم يكن بما قد كان وقال جريرٌ يعاتب المهاجر بنَ عبد اللَّه: من البسيط يا قيْسَ عَيْلانَ إنِّي قد نَصبتُ لكمْ بالمَنْجَنِيقِ ولمّا أُرسِلِ الحَجرا فوثب المهاجرُ فأخذ بحَقْوه وقال: لك العُتَبى يا أبا حَزْرة لا ترسِلْه وقال سُويد بن صامت: ألا رُبَّ مَنْ تدعُو صديقاً ولوْ تَرى مقالتَهُ بالغَيب ِ ساءَكَ ما يَفري مقالته كالشَّحمِ ما دامَ شاهِداً وبالغيب مأثورٌ على ثُغرةِ النَّحرِ تُبينُ لكَ العَينان ِ ما هو كاتِمٌ مِنَ الشرِّ والبغضاءِ بالنَّظر الشَّزْرِ يسُرُّكَ بادِيه وتحتَ أَديمِهِ نَميمةُ غِشٍّ تَبتَرِي عَقَبَ الظَّهرِ فَرِشْنِي بخيرٍ طالما قد بَرَيتَني وخَيْرُ الموالي مَن يَريشُ ولا يَبْري وقال حارثة بن بدر لما تحالفت الأزدُ وربيعة: من البسيط لا تحسبنَّ فُؤادي طائراً فَزِعاً إذا تحالفَ ضبُّ البَرِّ والنُّونُ وأنشد ابنُ الأعرابيّ لأعرابيّ: من الطويل فإنْ أكُ قَصداً في الرّجال فإنَّني إذا حلّ أمرٌ ساحتي لَجَسِيمُ تُعيِّرُني الإعدامَ والوجهُ مُعْرِضٌ وسَيفِي بأموالِ التِّجارِ زعيمُ وأنشد ابنُ الأعرابي لعمرو بن شأس: من الطويل مَتى يَبلغُ البُنْيانُ يوماً تمامَهُ إذا كُنتَ تَبنيهِ وآخَرُ يَهدمُ وقال عَبيد بن الأبرص: مخلع البسيط وأنشد الأصمعيُّ لكثير: من الوافر رأيْتُ أبا الوَليدِ غَدَاةَ جَمْعٍ به شيبٌ وما فقدَ الشَّبابا ولكنْ تحتَ ذاكَ الشَّيبِ حَزْمٌ إذا ما ظَنَّ أمرَضَ أو أصابا ويَمدحون بإصابة الظن ويذمُّون بخَطَائه قال أوس بن حجر: من المنسرح الألمعيُّ الذي يَظُنُّ بكَ الظَّ - نَّ كأنْ قد رَأى وقد سَمِعا وفي بعض الحكمة: من لم يتنفع بظنِّه لم ينتفع بيقينه وقال السموءل بن عاديا: من الطويل وإنَّا لقومٌ ما نَرى القتْلَ سُبَّةً إذا ما رأتهُ عامِرٌ وسَلولُ يُقرِّبُ حُبُّ الموت ِ آجالَنا لنا وتكرههُ آجالُهمْ فتطُول تسيل على حدِّ السُّيوفِ نُفوسُنا وليستْ على غير السُّيوفِ تسيل وما ماَت مِنَّا ميِّتٌ في فِراشِه ولا طُلَّ مِنَّا حيث كانَ قَتيل وقال حَسان بن ثابت: من الخفيف لمْ تَفُتْها شمسُ النهارِ بشيءٍ غيرَ أنّ الشبابَ ليسَ يدَومُ لو يدِبُّ الْحوليُّ مِن وَلدِ الذَّ - رِّ عليها لأندَبَتها الكُلومُ ثمَّ فارقتُ ذاكَ غيرَ ذَميمٍ كلُّ عيشِ الدُّنْيا وإنْ طالَ فانِ وقال مزاحمٌ العُقيليّ: من الطويل تَزينُ سَنا الماوِيِّ كلَّ عَشيَّةٍ على غَفلاتِ الزَّينِ والمتَجَمَّلِ وجوهٌ لوَ انَّ المُدْلِجينَ اعتَشَوْا بها صَدعنَ الدُّجَى حتى تَرى الليلَ ينجلي وقال المسعوديّ: إنَّ الكِرَامَ مُناهبو - كَ المجدَ كُلَّهُمُ فَناهِبْ أَخْلِفْ وأتلِفْ كلُّ شَ - يْءٍ زَعْزَعَتْهُ الرِّيحُ ذاهبْ قال: قام شدّاد بن أوس وقد أمره معاويةُ بتنقُّصِ عليّ فقال: الحمد للَّه الذي افترض طاعتَه على عباده وجعَلَ رضاه عند أهل التقوى آثَرَ مِن رضا خلقِه على ذلك مَضَى أوّلُهم وعليه يمضي آخِرهُم أيُّها الناس إنّ الآخرةَ وعدٌ صادق يحكم فيها ملِكٌ قادر وإنَّ الدُّنيا عَرَضٌ حاضر يأكل منه البَرّ والفاجر وإنّ السَّامعَ المطيعَ للَّه لا حجّة عليه وإنَّ السامع العاصِيَ للَّه لا حجّة له وإنّ اللَّه إذا أراد بالعباد صَلاحاً عَمِلَ عليهم صلحاؤُهم وقَضى بينهم فقهاؤهم وملكَ المالَ سمحاؤهم وإذا أراد بهم شرّاً عَمِلَ عليهم سفهاؤهم وقضَى بينهم جهلاؤهم ومَلكَ المال بخلاؤُهم وإنّ مِنْ صلاح الولاة أن يصلح قرناؤهم ونَصَحَ لك يا معاويةُ مَن قال: اجلِسْ رحِمك اللّه قد أمَرْنا لك بمال قال: إنْ كان من مالك الذي تعهّدتَ جمعَه مخافَة تَبعته فأصبتَه حلالاً وأنفقتَه إفضالاً فنَعَمْ وإنْ كان ممّا شاركك فيه المسلمون فاحتَجَنْتَه دونهم فأصبته اقترافاً وأنفقته إسرافاً فإنّ اللَّه يقول في كتابه: " إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشًَّياطِينِ " الإسراء: 27 وأذِنَ معاوية للأحنف بن قيس وقد وافى معه محمّدُ بن الأشعث ثم أذِنَ له فقدَّمه عليه فوجِدَ من ذلك محمّد بن الأشعث ثم أذِنَ له فدخلَ فجلس بين بمعاويةَ والأحنف فقال له معاوية: إنّا واللَّه ما أذِنّا له قبلَكَ إلاّ ليجلسَ إلينا دونك وما رأيتُ أحداً يرفع نفسَه فوق قَدْرها إلاّ من ذِلّة يجِدُها وقد فعلتَ فعِلَ من أحَسَّ مِن نفسه ذلاًّ وضَعَة وإنّا كما نملك أمورَكم نملك تأديَبكم فأريدُوا مِنَّا ما نريده منكم فإنّه أبقَى لكم وإلاّ قَصَرنْاكُمْ كَرْهاً فكان أشدَّ عليكم وأعنَفَ بكم وقال معاويةُ لرجلٍ من أهل سبأ: ما كان أجهَلَ قومك حين ملَّكوا عليهم امرأة فقال: بل قومُك أجهل قالوا حينَ دعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الحق وأراهُم البينات: " اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطر عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " الأنفال: 32 ألاَّ قالوا: اللهم إنْ كان هذا هو الحقَّ من عندك فاهدِنا له قال: ولما سقطت ثَنِيَّتا معاوية لفَّ وجهَه بعمامة ثمّ خرج إلى النّاس فقال: لئن ابتُليتُ لقدابتُلِيَ الصّالحون قَبْلي وإني لأرجُو أن أكونَ منهم ولَئن عوقبتُ لقد عُوقِب الخاطئون قبلي وما آمَنُ أن أكونَ منهم ولئن سَقَط عضوانِ منِّي لَمَا بقيَ أكثر ولو أَتَى على نفسي لما كان لي عليه خيارٌ تبارك وتعالى فرَحِمَ اللَّه عبداً دعا بالعافية فواللَّه لئن كان عتَب عليَّ بعضُ خاصّتكم لقد كنت حَدِباً على عامّتكم ولما بلغت معاويَة وفاةُ الحسن بن عليِّ رضي اللَّه تعالى عنهما دخَلَ عليه ابنُ عبّاس فقال له معاوية: آجَرَك اللَّه أباعبّاس في أبي محمدٍ الحسن بن عليّ ولم يُظهِرْ حزناً فقال ابنُ عبّاس: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون وغلبه البكاءُ فردّه ثم قال: لا يسدُّ واللَّه مكانَه جُفرتُك ولا يزيد موتُه في أجلك واللَّه لقد أُصِبْنا بمن هو أعظمُ منه فقداً فما ضيَّعَنا اللَّهُ بعده فقال له معاوية: كم كانت سنُّه قال: مولدُه أشْهَرُ من أن تُعترَّف سنُّه قال: أحسبه ترك أولاداً صغاراً قال: كلُّنا كان صغيراً فكبر ولئن اختار اللّه لأبي محمّدٍ ما عندَه وقبَضَه إلى رحمته لقد أبقى اللَّه أبا عبدِ اللّه وفي مثله الخلَف الصالح الأصمعي عن أبان بن تغلب قال: مررت بامرأةٍ بأعلى الأرض وبين يديها ابنٌ لها يريد سَفَراً وهي توصيهِ فقالت: اجلسْ أمنحْك وصيَّتي وباللَّه توفيقُك وقليل إجدائها عليك أنفَعُ من كثير عقلك: إيّاك والنَّمائم فإنَّها تزرع الضَّغائن ولا تجعل نَفْسك غرضاً للرُّماة فإنّ الهدفَ إذا رُمِي لم يلبثْ أن ينثلم ومثِّلْ لِنَفسك مثالاً فما استحسَنتَه من غيرِك فاعمَلْ به وما كرهتَه منه فدعه واجتَنبْه ومَن كان مودّته بِشرَهُ كان كالرِّيح في تصرُّفها ثم نظرَتْ فقالت: كأنك يا عراقيُّ أُعجيبتَ بكلام أهل البدْو ثم قالت لابنها: إذا هزَزتَ فهزَّ كريماً فإنَّ الكريمَ يهتزّ لهزّتك وإيّاك واللئيمَ فإنّه صخرةٌ لا ينفجر ماؤها و وإيّاك والغَدْرَ فإنّه أقبحُ ما تعومل به وعليك بالوفاء ففيه النَّماء وكنْ بمالك جواداً وبدينك شَحيحاً ومَن أُعطي السّخاءَ والحِلم فقد استَجادَ الحُلَّةَ: رَيطتَها وسِرْبالَها انهَضْ على اسم اللَّه وقال أعرابيٌ لرجلٍ مَطَلَهُ في حاجَة: إنّ مِثلَ الظفّر بالحاجة تعجيلُ اليأس منها إذا عَسُر قضاؤها وإنّ الطّلبَ وإن قلّ أعظمُ قدْراً من الحاجة وإن عظُمت والمَطْل من غير عُسرٍ آفةُ الجود خطَب الفضلُ الرقاشيُّ إلى قومٍ من بني تميم فخطب لنفسه فلما فرَغ قام أعرابيُّ منهم فقال: توسَّلْتَ بحُرمة وأدليتَ بحقّ واستندتَ إلي خَير ودَعوتَ إلى سُنَّة ففَرضُك مقبول وما سألتَ مبذول وحاجتُك مقضيَّة إن شاء اللَّه تعالى قال الفضل: لو كان الأعرابيُّ حمِد اللَّه في أوّل كلامه وصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم لفضَحَني يومئذ المدائني قال: قال المُنذرُ بنُ المنذِر لمّا حارَب غَسّانَ الشامِ لابنه النعمان يوصيه: إيّاك واطِّراحَ الإخوان واطِّرافَ المعرفة وإيّاك وملاحاةَ الملول وممازحةَ السَّفيه وعليك بطُول الخَلوة والإكثارِ من السّمَر والبس من القِشْر ما يزينُك في نفسك ومروءَتك واعلم أنّ جِماع الخير كلّه الحياءُ فعليك به فتواضعْ في نفسك وانخدِعْ في مالك واعلم أنّ السكوتَ عن الأمر الذي يغنيك خيرٌ من الكلام فإذا اضطررت إليه فتحرَّ الصدقَ والإيجاز تسلمْ إن شاد اللَّه تعالى
قال: إنّ الخلق للخالق والشُّكر للمنعم والتّسليم للقادر ولا بدَّ مما هو كائن وقد جاء مالا يُردّ ولا سبيلَ إلى ردّ ما قد فات وقد أقام معك ما سيذهب أو ستتركه فما الجزَعُ مما لا بدَّ منه وما الطّمع فيمالا يُرجَى وما الحيلةُ فيما سينتقل عنك أو تُنقَل عنه وقد مضَتْ أصولٌ نحنُ فروعُها فما بقاءُ الفرع بعد ذهاب الأصل فأفضل الأشياءِ عند المصائب الصّبر وإنما أهلُ الدُّنيا سَفْر لا يَحُلُّون الرِّكابَ إلاّ في غيرها فما أحسَنَ الشُّكرَ عند النِّعَم والتسليم عند الغِيرَ فاعتبرْ بمن رأيتَ من أهل الجزع فإن رأيت الجزع ردَّ أحداً منهم إلى ثقةٍ مِن دَرَك فما أولاكَ به واعلم أنّ أعظمَ من المصيبة سوءُ الخَلَف منها فأفِقْ فإنّ المرجع قريب واعلم أنه إنما ابتلاك المنعِم وأخذ منك المعطِي وما تَرَك أكثر فإنْ نسيتَ الصبرَ فلا تَنس الشكر وكُلاًّ فلا تَدعْ واحذَرْ من الغفلة استلاب النِّعم وطولَ الندامة فما أَصغرَ المصيبةَ اليوم مع عظَم الغنيمة غداً فاستقبل المصيبةَ بالحِسْبة تستخلِفْ بها نُعْمَى فإنما نحنُ في الدُّنيا غَرضٌ يُنتضَل فينا بالمنايا ونهبٌ للمصائب مع كلِّ جُرعة شرقٌ ومع كل أُكلةٍ غَصَصٌ لا تُنال نعمةٌ إلاّ بفراق أخرى ولا يَستقبِل مُعَمَّرٌ يوماً من عمره إلاّ بفراقِ آخرَ مِن أجلَه ولا تحدُث له زيادة في أكله إلاّ بنَفاد ما قبلَه من رزقه ولا يحيا له أثرٌ إلاّ ماتَ له أثر ونحنُ أعوانُ الحُتوف على أنفسِنا وأنفسنا تسوقُنا إلى الفَناء فمن أين نرجو البقاء وهذا اللَّيل والنَّهار لم يَرفَعا من شيءٍ شرَفاً إلا أسرعا الكَرَّة في هدمِ ما رَفعا وتفريق ما جَمَعا فاطلُب الخيرَ من أهله واعلم أنّ خيراً من الخير مُعطِيه وشرّاً من الشر فاعلُه وقال أبو نواس: من الكامل أَتَتَبَّعُ الظُّرفاءَ أَكتُبُ عنهُمُ كيما أُحدِّثَ مَن أُحِبُّ فيَضْحكا وقال آخر: من الطويل قَدَرْتُ فلم أَترُكْ صَلاحَ عَشيرتي وما العفوُ إلاّ بعدَ قُدْرةِ قادرِ وقال آخر: من الطويل قَبيصة بن عمر المهلَّبي أنّ رجلاً أتَى ابنَ أبي عُيَينة فسأله أن يكتب إلى دَاوُد ابن يَزِيدَ كتاباً ففعل وكتب في أسفله: من الكامل إنَّ امرَأً قَذَفتْ إليكَ به فِي البحر بعضُ مراكِبِ البَحرِ تَجري الرِّياحُ بِهِ فتَحمِلُه وتكُفُّ أَحياناً فلا تَجْرِي ويَرَى المَنِيَّةَ كُلَّما عَصَفتْ ريحٌ به لِلهَولِ والذُّعرِ لَلمستحقُّ بأن تزوِّدَه كُتبَ الأمانِ له من الفقر قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: ما وجَد أحدٌ في نفسه كِبْراً إلاّ من مَهانة يجدُها في نفسه ودخل رجلٌ من بني مخزوم وكان زُبيرياً على عبد الملك بن مَرْوان فقال له عبدُ الملك: أليس قد ردّك اللَّه على عقِبَيك قال: أوَ مَن رُدّ إليك فقد رُدَّ على عَقِبيه فاستحيا وعلم أنه قد أساءَ وقال المخبّل: من الطويل إذا أَنتَ لاقَيتَ الرِّجالَ فلاقهمْ وعِرضكَ مِنْ غَثِّ الأُمورِ سلِيمُ وقال النَّضْرُ بنُ خالِد: من الخفيف كِبْرُهُ يَبلُغُ الكواكبَ إلاّ أنَّه في مُروءَةِ البَقّال وقال خِداش بنُ زُهَيْر: من البسيط إنَّا لَنَعلمُ أَنَّا ما بقِيتَ لنا فينا السَّماحُ وفينَا الجُودُ والكرَمُ وحَسْبُنا مِن ثناءِ المادِحِينَ إذا أَثَنوا عليك بِأَنْ يُثْنُوا بِما عَلِمُوا وقال ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما: كانت قريشٌ تألفُ منزلَ أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه لخصلتين: العلم والطعام فلما أسلَمَ أسلم عامّة مَن كان يجالسُه قال الأصمعيّ: وقف أعرابيٌّ يسأل فقال: من الرجز ألاَ فَتىً أرْوَعَ ذا جَمَالِ مِن عَرَبِ النَّاسِ أوِ المَوَالي يُعِينُنِي اليومَ عَلَى عِيالي قد كَثَّرُوا هَمِّي وقلَّ مالي وساقَهُمْ جَدبٌ وسُوءُ حالِ وقد مَلِلْتُ كَثرةَ السُّؤال وقال أعرابيّ: من الرجز يا ابْنَ الكِرامِ والِداً وولدَا لا تَحْرِمَنَّ سائلاً تَعمّدَا أَفْقَرَهُ دهرٌ عليهِ قد عَدا مِن بَعْدِ ما كانَ قدِيماً سيِّدا وقال أعرابي: اللهم أسألك قلباً توّاباً لا كافراً ولا مرتاباً وهَبَ رجلٌ لأعرابيّ شيئاً فقال: جعل اللَّه للخير عليك دليلاً وجعل عندك رِفْداً جزيلاً وأبقاك بقاءً طويلاً وأبلاك بلاءً جميلاً وقف أعرابيٌّ على قومٍ فمنعوه فقال: اللهم اشغَلْنا بذكرك وأعِذْنا من سُخْطك واجنُبنا إلى عفوك فقد ضمنَّ خَلْقك على خَلْقك برزقك فلا تشغَلْنا بما عندهم عن طلب ما عِندَك وآتِنا من الدُّنيا القُنعان وإن كان كثيرُها يُسخِطك فلا خيرَ فيما يسخطك الأصمعيّ قال: سمعتُ أعرابياً يدعو وهو يقول: اللهمّ اغفر لي إذ الصحُف منشورة والتوبةُ مقبولة قبل أن لا أقدرَ على استغفارك حين ينقطعُ الأمل ويحضُرُ الأجل ويَفنَى العمل الأصمعي قال: سمعتُ أعرابياً يدعو وهو يقول: اللهم ارزقني مالاً أَكبِت به الأعداء وبنينَ أصُولُ بهم على الأقوياء وكان مُنادِي سعد بن عُبَادة يقول على أُطُمِه: من أراد خُبزاً ولحماً فليأت أُطَمَ سعد وخَلَفه ابنه قيسُ بن سعد فكان يفعل كفعله فإذا أكل الناسُ رفع يدَه إلى السماء وقال: اللهمَّ إني لا أصلح على القليل ولا يصلُح القليلُ لي اللهمّ هبْ لي حَمداً ومجداً فإنَّه لا حمدَ إلاّ بفَعَال ولا مجد إلاّ بمال وقال أعرابيٌّ: اللهم إنّ لك عليّ حقوقاً فتصدَّقْ بها عليّ وللناس عليَّ حقوقاً فأدِّها عنّي وقد أوجبتَ لكلِّ ضيفٍ قِرىً وأنا ضيفك فاجعَلْ قِرايَ في هذه اللّيلةِ الجنة وقفَ أعرابيٌّ على قومٍ يسألهم فأنشأ يقول: من البسيط هل مِن فتىً عِندَهُ خُفَّانِ يحمِلُني عليهما إنَّني شيخٌ على سَفَرِ أشْكُو إلى اللَّه ِ أَهوالاً أُمارِسُها مِن الصُّداعِ وأَنِّي سَيِّئ البصرِ الأخفش قال: خرج أعرابيٌّ يطلب الصَّدَقة ومعه ابنتان له فقالت ابنتُه لمّا رأت إمساك الناس عنه: من الرجز يا أيُّها الرَّاكبُ ذُو التَّعرِيسِ هل فِيكُمُ مِن طارِدٍ للبُوسِ عَن ذِي هُدَاج ٍ بَيِّنِ التَّقويسِ بفضلِ سِربالٍ لهُ دَرِيسٍ أو فاضِلٍ مِنْ زَادِه ِ خَسِيسِ أَثابَهُ الرَّحمنُ بالنِّفِيسِ ووقف سائلٌ على الحسن فقال: رحِم اللَّه عبداً أعطى من سَعَة أوْ آسِى من كفاف أو آثرَ من قِلّة قال الطائيّ: من الطويل فتىً كُلَّما فاضَتْ عيونُ قَبِيلةٍ دماً ضحِكَت عنهُ الأحادِيثُ والذِّكْرُ فتىً مات بين الطَّعْنِ والضَّربِ مِيتة تقُومُ مَقامَ النَّصرِ إذْ فاتَه النَّصرُ وقال: من الكامل بِكرٌ إذا ابتسمتْ أَراكَ وَمِيضُها نَوْر الأقَاحِ برَملةٍ ميعاسِ وإذا مَشَتْ تَركَتْ بصدرِكَ ضِعف ما بِحُليِّها مِن كثرةِ الوَسواسِ قالت وقد حُمَّ الفِراقُ فكأسُهُ قد خولِطَ السَاقي بها والحاسِي لا تَنْسَيَنْ تلك العُهودَ فإنَّما سُمِّيتَ إنساناً لأنَّكَ ناسِي نَوْرُ العَرارةِ نَوْرُهُ ونِسيمُهُ نَشْرُ الخزامَى في اخضِرارِ الآسِ إقدامُ عَمرٍو في سَماحةِ حاتِمٍ في حِلْمِ أحنفَ في ذَكاء إياسِ لاَ تُنْكِرُوا ضَرْبي لهُ مَنْ دُونَه مثَلاً شَرُوداً في النَّدَى والباسِ فاللَّه قد ضَرَبَ الأقلَّ لِنُورِهِ مَثلاً مِن المِشكاةِ والنِّبراسِ وقال: من البسيط احفَظْ رَسائل شِعْرٍ فيكَ ما ذَهَبتْ خَواطِرُ البَرقِ إلاّ دُونَ ما ذهَبا يغْدُون مُغتَرباتٍ في البِلادِ فما يَزَلنَ يُؤْنِسنَ في الآفاقِ مُغترِبا ولا تُضِعْها فما في الأرضِ أحسَنُ مِنْ نظمِ القوافِي إذا ما صادَفَتْ أدبا أُسر رؤبةُ في بعض حروبِ تميمٍ فمُنِع الكلامَ فجعل يصرخُ: يا صباحاه ويا بني تميمٍ أطلقوا من لساني وربّما قال الشّاعرُ في هجائِه قولاً يعيب به المهجوَّ فيمتنع مِن فِعله المهجوُّ وإن كان لا يلحق فاعلَه ذمّ وكذلِك إذا مدحه بشيءٍ أولِعَ بفعله وإن كان لا يصير إليه بفعله مدحٌ فمن ذلك تقدُّمُ كُلْثُمَ بنتِ سَريع مولى عمرو بن حُرَيث إلى عبد الملك بن عُمير وهو على قضاء الكوفة تُخاصِم أهلَها فقضى لها عبدُ الملك على أهلها فقال هُذَيل الأشجعيّ: من الطويل أتاهُ وليدٌ بالشُّهودِ يقُودهُمْ على ما ادَّعَى مِن صامِتِ المالِ والخوَلْ فأدْلى وليدٌ عِندَ ذاكَ بحقِّهِ وكانَ وليدٌ ذا مِراءٍ وذا جَدَلْ وكانَ لها دَلٌّ وعينٌ كحيلَةٌ فأَدْلتْ بحُسنِ الدَّلِّ مِنها وبالكَحَل فَفتَّنَتِ القِبْطِيَّ حَتى قضَى لهَا بِغير قضاء ِ اللَّهِ في السُّورَ الطُّوَلْ فلو كانَ مَن بالقصر يَعلمُ عِلمَه لمَا استُعْمِلَ القبْطِيُّ فينا على عمَلْ له حِينَ يقضِي لِلنِّسَاءِ تَخاوُصٌ وكانَ وما فيهِ التَّخاوُضُ والحَوَلْ إذا ذاتُ دَلٍّ كلَّمتهُ بحاجةٍ فهَمَّ بأن يَقضِي تَنحنَح أو سَعَل وبرَّق َ عَينَيهِ ولاكَ لِسانهُ يَرى كلَّ شَيءٍ مَا خلا شَخصَها جَلَلْ قال: فقال عبدُ الملك: أخزاه اللَّه واللَّه لربَّما جاءتني السَّعلة أو النَّحنحةُ وأنا في المتوضّأ فأذكر قولَه فأردُّها لذلك وزعم الهيثم بن عديّ عن أشياخه أنّ الشّاعر لما قال في شَهْر بن حَوشب: من الطويل لقد باعَ شَهْرٌ دِينَهُ بخرِيطةٍ فمَن يَأمَنُ القُرَّاءَ بَعدَكَ يا شَهْرُ ما مسَّ خريطةً حتّى مات وقال رجلٌ من بني تغلب وكان ظريفاً: ما لقِيَ أحدٌ من تغلبَ ما ألقَى أنا قلت: وكيفَ ذلك قال: قال الشاعر: من الكامل لا تَطلُبَنَّ خُؤُولةً في تَغلِبٍ فالزِّنجُ أكرَمُ مِنهُمُ أخوالا تَلْقاهُمُ حُلماءَ عن أعدائهمْ وعلى الصِّدِيقِ تراهُمُ جُهَّالا والتَّغْلَبيُّ إذا تَنَحنَحَ لِلقِرَى حكّ استَهُ وتمَثَّلَ الأمثالا واللَّه إنِّي لأتوهّم أنْ لو نهشت استِي الأفاعي ما حككتُها وكان الشّاعر أرفعَ قدراً من الخطيب وهم إليه أحوج لردِّه مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيّامهم فلمّا كثُر الشُّعراء وكثُر الشّعر صارَ الخطيبُ أعظَمَ قدراً من الشّاعر والذين هَجَوا فوضَعوا مِن قدر مَن هجوَه ومَدحوا فرفعوا مِن قدْر من مَدحُوا وهَجاهم قومٌ فردُّوا عليهم فأفحَموهم وسكَتَ عنهم بعضُ من هجاهم مخافةَ التعرُّض لهم وسكتوا عن بعض مَن هجاهم رغبةً بأنفسهم عن الردّ عليهم وهم إسلاميّون: جرير والفرزدق والأخطل وفي الجاهلية: زهير وطَرفَة والأعشى والنابغة هذا قول أبي عبيدة وزعَم أبو عمرو بن العلاء: أنَّ الشِّعر فُتح بامرئ القيس وخُتِم بذي الرُّمَّة ومن الشعراء مَن يُحكم القريض ولا يُحسِن من الرّجَر شيئاً ففي الجاهليّة منهم: زُهير والنابغة والأعشى وأما مَن يجمعهما فامرؤ القيس وله شيءٌ من الرجز وطرفة وله كمثلِ ذلك ولبيد وقد أكثر ومن الإسلامييّن من لا يَقدر على الرّجز وهو في ذلك يُجيد القريض: كالفرزدق وجرير ومَن يجمعهما فأبو النجم وحُميدٌ الأرقط والعُمانيّ وبَشّار بن برد وأقلُّ مِن هؤلاء يُحكم القصيدَ والأرجاز والخطب وكان الكميتُ والبَعيث والطِّرِمّاح شعراءَ خطباء وكان البَعيثُ أخطبَهم وقال يونس: لئن كان مغلَّباً في الشِّعر لقد كان غلِّب في الخُطَب وإذا قالوا: غلِّب فهو الغالب وقال الحسين بن مُطيرٍ الأسديّ: من الطويل فَيا قبرَ مَعْنٍ كنتَ أوَّل حُفرةٍ من الأرضِ خُطَتْ لِلمكارِم مضجَعا فلمَّا مَضَى معن مَضَى الجُودُ وانقضى وأصبحَ عِرنينُ المكارِمِ أجدَعا فتىً عيشَ في معروفِهِ بَعدَ مَوتِه كما كان بعدَ السَّيلِ مجراهُ مَرتَعاً تَعزَّ أبَا العبَّاسِ عنه ولا يكُنْ جزاؤُكَ مِن مَعْنٍ بأنْ تَتَضَعْضَعَا فما ماتَ مَن كُنتَ ابنَهُ لا ولا الَّذِي لهُ مِثلُ ما أَسدَى أبُوكَ وما سَعَى تمنَّى أُناس شأْوَهُ مِن ضلالِهمْ فأَضحَوْا على الأذقانِ صَرْعَى وظُلَّعا وقال مسلمٌ الأنصاريّ يَرْثي يزيدَ بنَ مَزْيد: من الكامل قبرٌ بِبَرْذَعَة استَسَرَّ ضَرِيحُهُ خَطراً تقاصَرُ دُونهُ الأخطارُ أبْقَى الزَّمانُ على مَعَدٍّ بعدَهُ حُزناً كَعُمْرِ الدَّهرِ ليسَ يُعارُ فاذهبْ كما ذَهَبتْ غَوادِي مُزْنةٍ أثْنَى عليْها السَّهلُ والأَوعارُ وقال هَمّام الرَّقاشيّ: من البسيط أَبْلِغْ أَبَا مِسْمَعٍ عنِّي مُغلغَلةً وفي العِتَابِ حياةٌ بينَ أقوام قدَّمْتَ قبلِي رِجالاً لم يَكُنْ لهُمُ فِي الحقِّ أن يَلِجُوا الأبواب قُدّامِي لو عُدَّ قَبْرٌ وقبرٌ كُنتُ أكرمَهمْ قبراً وأبعدَهُمْ مِن منزل الذَّامِ حتى جعلت إذا ما حاجة عرضت بباب قصرك أدلوها بأقوام وقال الأُبيرِد الرِّياحيّ يرثي أخاه: من الطويل فَتىً إن هُو َ استغنَى تَخرَّقَ في الغِنى وإنْ قَلَّ مالٌ لم يَؤُدْ متْنَهُ الفقرُ وسَامَى جَسِيماتِ الأُمور ِ فنالها على العُسرِ حَتّى يُدرِكَ العُسْرَةَ اليُسرُ تَرَى القومَ في العَزَّاءِ يَنتظِرُونهُ إذا شكَّ رَأيُ القومِ أو حَزبَ الأَمرُ فليتَكَ كُنتَ الحَيَّ في النّاس باقياً وكُنْتُ أنا الميتَ الَّذِي غَيَّبَ القبرُ لقد كُنْتُ أستَعِفي الإلهَ إذا اشتكَى مِنَ الأَجرِ لي فيهِ وإنْ سَرَّني الأَجرُ لقد رَحَل الحيُّ المُقيمُ ووَدّعُوا فتىً لم يكُنْ يأذَى به مَن يُنازِلُه ولم يَكُ يخشى الجَارُ مِنهُ إذا دَنا أذاهُ ولا يخشى الحَريمةَ سائلُه فَتَى كان لِلمعْروفِ يَبسُطُ كَفَّهُ إذا قُبضَتْ كَفُّ البخِيل ونائِلُه قال: دخل مَعْنُ بنُ زائِدةَ على أبي جعفرٍ المنصور فقارَبَ في خَطْوه فقال المنصور: لقد كبرتْ سنُّك قال: في طاعتك قال: وإنّك لَجَلْدٌ قال: على أعدائك قال: وأرى فيك بقيّة قال: هي لك قال: كتب عبدُ الملك بن مرْوان إلى عمرِو بن سعيدٍ الأشدقِ حينَ خرج عليه: أمّا بعد فإنّ رحمتي لك تصرفُني عن الغضب عليك لتمكّن الخُدَع منك وخِذلانِ التَّوفيق إياك نهضتَ بأسبابٍ وَهَّمَتْكَ أطماعُك أن تستفيد بها عِزّاً كنت جديراً لو اعتدلت أن لا تدفع بها ذُلاّ ومَن رحَلَ عنه حسنُ النظر واستوطنَتْه الأماني ملَكَ الحَيْنُ تصريفَه واستترت عنه عواقبُ أمره وعن قليلِ يتبيَّن مَن سلك سبيلَكَ ونهض بمثل أسبابك أنّه أسِيرُ غَفْلة وصريع خَدْعٍ ومَغيض ندَم والرَّحِم تَحمِل على الصَّفح عنك ما لم تحلُل بك عواقبُ جهلك وتزجُرْ عن الإيقاع بك وأنت إن ارتدعتَ في كنَفٍ وسِتر والسلام فكتب إليه عمرو: أمّا بعدُ فإنّ استدارجَ النِّعَم إياك أفادَك البغْيَ ورائحة القُدْرة أورثَتْك الغفلة زجرت عمّا واقعتَ مثلَه ونَدَبت إلى ما تركتَ سبيلَه ولو كان ضَعفُ الأسباب يُؤْيِس الطّلاّبَ ما انتقل سلطانٌ ولا ذلَّ عِزٌّ وعمّا قليل تتبيَّن مَن أسيرالغفلة وصريع الخُدَع والرَّحِم تَعطِف على الإبقاء عليك مع دفعك ما غيرُك أقْوَمُ به منك والسلام قال أبو الحسن: كتب عمرُ بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد بن عبد الملك أمّا بعدُ فإنّك كَتبتَ تذكر أنَّ عاملاً أخذ مالك بالحَمَّةِ وتزعم أنِّي من الظالمين وإنَّ أظلَمَ مِنِّي وأترَكَ لعهد اللَّه مَن أمَّرَك صَبيّاً سفيهاً على جيش من جيوش المسلمين لم تكن له في ذلك نية إلاّ حبُّ الوالد لولدِه وإنّ أظلَمَ منيِّ وأتركَ لعهد اللَّه لأنت فأنت عُمَر بن الوليد وأمُّك صَنّاجة تدخل دور حِمْص وتطوفُ في حوانيتها رويدَك أنْ لو قد التقت حَلْقتا البطان لحملتُك وأهلَ بيتِك على المحَجَّة البيضاء فطالما ركِبتُم بُنَيّاتِ الطريق مع أنِّي قد هممت أن أبعثَ إليك مَن يحلق دلادلك فإنِّي أعلم أنّها مِن أعظم المصائب عليك والسلام قال أبو الحسن: كان عبد الملك بن مروانَ شديدَ اليقظَة وكثيرَ التعهُّد لُولاته فبلَغه أنَّ عاملاً من عُمّاله قبل هديّة فأمرَ بإشخاصه إليه فلمّا دخَل عليه قال له: أقبلت هديّةً منذ ولّيتك قال له: يا أمير المؤمنين بلادُك عامرة وخَراجُك موفور ورعيّتُك على أفضل حال قال: أجب فيما سَألتك عنه أقبِلْتَ هديّةً منذ ولّيتك قال: نَعم قال: لئن كنتَ قبلت هديّة ولم تعوِّضْ إنك: للئيم ولئن أنلتَ مهديَك لا من مالك أو استكفيتَه ما لم يكن يُستكفاه إنك لجائر خائن ولئن كان مذهبُك أن تعوِّض المهدِيَ إليك مِن مالك وقَبِلت ما اتّهمك به عند مَن استكفاك وبَسَطَ لسانَ عائبك وأطمع فيك أهلَ عملك إنّك لجاهل وما في مَنْ أتى أمراً لم يخْل فيه من دناءةٍ أو خيانة أو جهلٍ مصطنعٌ نحّيَاه عن عمله قال أبو الحسن: عَرَض أعرابيٌّ لعتبةَ بن أبي سفيان وهو على مكَّة فقال: أيُّها الخليفة قال: لستُ به ولم تُبِعد قال: يا أخاه قال: أسْمَعْتَ فقال: شيخٌ من بني عامرٍ يتقرَّب إليك بالعُمومة ويخصُّ بالخؤولة ويشكو إليك كثرةَ العِيال ووطْأة الزمان وشدّةَ فقرٍ وترادُفَ ضُرّ وعندك ما يسَعُه ويَصرِف عنه بؤسَه قال: أستغفر اللَّه منك وأستعينُه عليك قد أمَرت لك بغناك ولَيْتَ إسراعي إليك يقوم بإبطائي عنك وقال أعرابيٌّ يَعِيب قوماً: هم أقلُّ النّاس ذُنوباً إلى أعدائهم وأكثرُهم جُرماً إلى أصدقائهم يصومون عن المعروف ويُفطِرون على الفَحْشاء وقال مُجَّاعَةُ بنُ مُرَارة لأبي بكرٍ الصدِّيق رضي اللَّه تعالى عنه: إذا كان الرأيُ عند من لا يُقبَل منه والسِّلاحُ عند من لا يستعمله والمال عند مَن لا ينفقه ضاعت الأمور الأصمعيُّ قال: نَعتَ أعرابيٌّ رجلاً فقال: كأنَّ الألسنَ والقلوبَ رِيضت له فما تنعقِد إلاّ على أتى أعرابيٌّ عمر بن عبد العزيز فقال: رجلٌ من أهل البادية ساقته الحاجة وانتهت به الفاقة واللَّهُ يسألُك عن مَقامي غداً فبكى عمر قال الشاعر: ومن يُبقِ مالاً عُدَّة وصيانة فلا البُخْل مُبقيهِ ولا الدهر وافِرُه ومَن يكُ ذَا عُودٍ صَليب يُعِدُّهُ ليِكسِرَ عُود الدهر فالدَّهرُ كاسِرُهْ وقال أبَان بن الوليد لإياسِ بن معاوية: أنا أغنَى مِنك فقال إياس: بل أنا أغنى منك قال أبان: وكيف ولي كذا وكذا وعَدَّدَ أموالاً قال: لأنَّ كسبَك لا يفضُل عن مؤونتك وكَسبي يفضُل عن مؤونتي وكان يقال: حاجبُ الرَّجل عامِلهُ على عِرضه وقال أبو الحسن: رأيتُ امرأةً أعرابية غَمّضَتْ مَيْتاً وترحَّمت عليه ثم قالت: ما أحقهَ مَن أُلبس العافية وأطِيلت له النَّظِرة أن لا يعجِزَ عن النظر لنفسه قبلَ الحلول بساحته والحيالة بينه وبين نفسه وقال ابن الزُّبير لمعاويةَ حين أراد أن يبايعَ لابنه يزيد: تقُدِّم ابنَك على مَن هو خيرٌ منه قال: كأنَّك تُريد نفسَك إنّ بيتَه بمكّة فوقَ بيتك قال ابن الزبير: إنّ اللَّه رفع بالإسلام بيوتاً فبيتي مما رَفَع قال معاوية: صدقتَ وبيتُ حاطبِ بن أبي بَلْتَعة وقال: عاتَبَ أعرابيٌّ أباه فقال: إنّ عظيمَ حقِّك عليَّ لا يُذهِبُ صغيرَ حقِّي عليك والذي تُمتُّ إليَّ أمُتُّ بمثله إليك ولستُ أزعُم أنّا سواء ولكنْ أقول: لا يحِلُّ لك الاعتداء قال: مدَحَ رجلٌ قوماً فقال أدّبَتْهمُ الحكمة وأحكمَتْهم التَّجارِب ولم تغرُرْهم السّلامةُ المنطَوِية على الهَلَكة ورحَلَ عنهم التّسويفُ الذي قطع الناس به مَسافَة آجالهم فأحسَنُوا المقال وشَفَعوه بالفَعال وقال بعض الحكماء: التّواضع مع السّخافة والبُخْل أحمَدُ عند العلماء من الكبر مع السَّخاء والأدب فأعظِمْ بحسَنةٍ عفّت على سيِّئتين وأفظِعْ بعيبٍ أفسَدَ من صاحبه حسنتين وقيل لرجل - أراه خالدَ بنَ صفْوان -: مات صديقٌ لك فقال: رحمةُ اللّه علَيه لقد كان يملأ العينَ جمالاً والأذنَ بياناً ولقد كان يُرجَى ولا يَخْشَى ويُغْشَى ولا يَغشَى ويُعطِي ولا يُعطَى قليلاً لدى الشَّرِّ حضوره سليماً للصَّديق ضميره وقام أعرابيٌّ ليَسأل فقال: أينَ الوُجوه الصبِّاح والعقولُ الصِّحاح والألسن الفصاح والأنساب الصِّراح والمكارم الرِّباح والصُّدور الفِساح تُعيذُني من مَقامي هذا ومَدَح بعضُهم رجلاً فقال: ما كان أفسَحَ صدرَه وأبعَدَ ذِكرَه وأعظم قَدْره وأنفذ أمره وأعلى شرَفَه وأربَحَ صَفقةَ مَن عرَفَه مع سعة الفِناء وعظم الإناء وكرم الآباء وقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه لصعصعة بن صوحان واللَّه ما عَلِمتُ إنّك لكثير المعونة قليل المؤونة فجزاك اللَّه خيراً فقال صعصعة: وأنت فجزاك اللَّه أحسَنَ ذلك قال أبو الحسن: أوصى عبد الملك بن صالح ابناً له فقال: أيْ بنيَّ احلُم فإنّ مَن حلُم ساد ومن تفهَّم ازداد والقَ أهلَ الخير فإنّ لقاءَهم عِمارةٌ للقلوب ولا تجمَحْ بك مَطِيّة اللَّجاج ومنك مَن أعتبك والصاحبُ مُناسِب والصَّبر على المكروه يَعصِم القلب المِزاحُ يورث الضغائن وحُسن التَّدبير مع الكَفاف خيرٌ من الكثير مع الإسراف والاقتصاد يثمِّر القليل والإسراف يُتَبِّر الكثير ونعِم الحظُّ القناعة وشرُّ ما صحِب المرءُ الحسد وما كلُّ عَورةٍ تُصاب وربَّما أقصر العَمِي رشدَه وأخطأ البصيرُ قصْدَه واليأس خيرٌ من الطَّلب إلى الناس والعِفّة مع الحِرفة خير من الغنى مع الفُجور أرفقْ في الطَّلب وأجملْ في المكسب فإنّه ربَّ طلَبٍ قد جرَّ إلى حَرَبٍ ليس كلُّ طالبٍ بمُنْجِح ولا كلُّ ملحّ بمحتاج والمغبونُ من غُبن نصيبَه من اللَّه عاتِبْ مَن رجوت عُتباه وفاكِهْ مَن أمِنت بَلواه لا تكن مِضحاكاً من غير عَجب ولا مشّاءً إلى غير أرب ومَن نأى عن الحقِّ ضاق مذهبُه ومن اقتصر على حاله كان أنعمَ لباله لا يكبرنَّ عليك ظُلمُ مَن ظلمك فإنّه إنَّما سعى في مَضرّته ونَفْعِك وعوِّد نفسك السَّماح وتخيَّرْ لها مِن كلِّ خلُق أحسنَه فإنّ الخيرَ عادة والشّرَّ لجاجة والصدودَ آيةُ المقت والتعلُّلَ آية البخل ومن الفقه كِتمان السر ولِقاح المعرفةِ دراسةُ العلم وطولُ التّجاربِ زيادةٌ في العقل والقناعةُ راحة الأبدان والشَّرف التَّقوى والبلاغةُ معرفة رتْقِ الكلام وفتقِه بالعقل تُستخرَج الحكمة وبالحِلْم يُستخرج غور العَقْل ومن شمَّر في الأمور ركب البُحور شرُّ القول ما نقضَ بعضُه بعضاً من سَعَى بالنَّميمة حَذِرَه البعيد ومقَته القريب مَن أطال النّظرَ بإرادةٍ تامّة أدرك الغاية ومن تواني في نفسه ضاع مَن أسرف في الأمور انتشَرت عليه ومن اقتصَدَ اجتمعت له واللَّجاجة تورث الضَّياعَ للأمور غِبُّ الأدب أحمد من ابتدائه مبادرةُ الفهم تورِث النِّسيان سوءُ الاستماع يُعقِب العِيّ لا تحدِّث مَن لا يقبِل بوجهه عليك ولا تنصِتْ لمن لا ينمِي بحديثه إليك البلادة في الرجل هجنة قلَّ مالِكٌ إلاّ استأثر وقلَّ عاجزٌ إلاّ تأخّر الإحجام عن الأمور يورث العجز والإقدام عليها يُورث اجتلابَ الحظّ سُوء الطُّعْمَةِ يفسد العِرْض ويُخلِق الوجه ويَمحَق الدِّين الهيبةُ قرين الحرمان والجَسَارة قرين الظّفَر ومِنكَ مَن أنصفك وأخوك مَن عاتبك وشريكُك مَن وَفَى لك وصَفِيُّك مَن آثرَك أعدى الاعتِداء العُقوق اتِّباع الشَهوة يُورث النّدامة وفَوتُ الفرصة يُورث الحَسرة جميع أركان الأدب التأتِّي للرفق أكْرِمْ نفسَك عن كلِّ دنِيَّة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تجدَ بما تَبذُل من دينك ونفسك عوضاً لا تساعد النساء فيملَلْنَك واستبق من نفسك بقيَّة فإنّهن إن يَرينك ذا اقتدارٍ خيرٌ من أن يطّلِعْن منك على انكسار لا تُملِّك المرأة الشفاعةَ لغيرها فيميلَ من شفعتْ له عليك معها أي بنيَّ إني قد اخترت لك الوصيَّة ومَحضْتك النصيحة وأدَّيت الحقَّ إلى اللَّه في تأديبك فلا تُغفِلنَّ الأخذَ بأحسنها والعملَ بها واللُّهُ موفّقك قال الغنَويّ: احتُضِر رجلٌ منا فصاحت ابنته ففتح عينيه وهو يَكيد بنفسه فقال: من الوافر عزاءً لا أبا لَكِ إنّ شيئاً تولّى ليسَ يُرجِعُهُ الحنينُ قال بعض الشعراء: من الطويل وما إن قَتلناهمْ بأكثرَ منهمُ ولكنْ بأوْفَى بالطِّعانِ وأَكْرما المدائنيّ قال: كان يقال: إذا انقطع رجاؤك من صديقك فأَلْحِقْه بعدوِّك وقال عبد الملك بن صالح: لا يكبُرَنّ عليك ظُلمُ مَن ظلمك فإنما سعَى في مضرَّته ونفعك وقال مُصعَب بن الزُّبير: التواضع أحد مَصايد الشَّرَف وقال عمربن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: إيّاك ومؤاخاةَ الأحمق فإنه ربما أراد أن ينفعَك فضرّك وكانوا يقولون: عَشْر في عَشَرةٍ هي فيهم أقبح منها في غيرهم: الضيق في الملوك والغَدر في ذوي الأحساب والحاجة في العلماء والكذِب في القُضاة والغضب في ذوي الألباب والسفاهةُ في الكهول والمرَض في الأطبّاء والاستهزاء في أهل البؤس والفَخْر في أهل الفاقة والشحُّ في الأغنياء ووصف بعض الأعراب فرساً فقال: انتهى ضُموره وذَبُل فريره وظهر حَصيرُه وتفلّقت غُرورُه واسترخت شاكلته يُقبل بزبرة الأسد ويُدْبِر بعجُز الذئب ومات ابنٌ لسليمانَ بن عليّ فَجزِعَ عليه جزعاً شديداً وامتنع من الطعام والشراب وجعل الناس يُعزُّونه فلا يَحفِل بذلك فدخل عليه يحيى بن منصور فقال: عليكم نَزَل كتاب اللَّه فأنتم أعلُم بفرائضه ومنكم كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنتم أعرفُ بسنَّته ولستَ ممن يُعلَّمُ مِنْ جَهْل ولا يُقوَّم من عِوَج ولكني أعزِّيك ببيتٍ من الشعر قال: هاته قال: من الطويل وهوَّنَ ما ألقَى منَ الوَجدِ أنَّني أُساكِنُهُ في دارِهِ اليومَ أو غَدا قال: أعدْ فأعاد فقال: يا غلامُ الغَداء قال: دعا أعرابيٌّ في طريق مكة فقال: هل من عائدٍ بفضل أو مواسٍ من كَفاف فأُمسِكَ عنه فقال: اللهمَّ لا تِكلْنا إلى أنفسنا فنعجِزَ ولا إلى الناس فنَضيع وقال أبو الحسن: جاء خلفٌ الأحمر إلى حَلْقة يونس حين مات أبو جعفرٍ فقال: قَدْ طَرَّقَتْ ببِكرها بِنْتُ طَبَقْ فقال له يونس: ماذا فقال: فذَمَّرُوها خَبَراً ضخمَ العُنق فقال يونس: وماذا فقال: مَوتُ الإمامِ فِلْقَةٌ مِن الفِلَقْ قال أبو الحسن: أراد رجلٌ أن يكذب بلالاً فقال له يوماً: يا بلالُ ما سِنُّ فرسك قال: عَظْم قال فكيف جَريُه قال: يحضِر ما استطاع قال: فأين تنزِل قال: موضعاً أضَعُ فيه رِجْلي فقال له الرّجل: لا أتعنَّتُك أبداً قال: ودخل رجلٌ على شُريحٍ القاضي يخاصم امرأةً له فقال: السّلامُ عليكم قال: وعليكم قال: إنِّي رجلٌ من أهل الشام قال: بعيد سَحيق قال: وإنِّي قدِمت إلى بلدكم هذا قال: خَير مَقْدَم قال: وإنِّي تزوجت امرأة قال: بالرِّفاء والبنين قال: وإنّها ولدَتْ غلاماً قال: ليَهْنِئْك الفارس قال: وقد كنتُ شَرَطتُ لها صَداقَها قال: الشرط أمْلَك قال وقد أردت الخروجَ بها إلى بلدي قال: الرجل أحقُّ بأهله قال: فاقض بيننا قال: قد فعلت قال: وخرج الحجّاج ذات يوم فأصحَر وحضَر غَداؤُه فقال: اطلبوا من يتغدَّى معي فطلبوا فإدا أعرابيٌّ في شَملةٍ فأُتِيَ به فقال: السَّلام عليكم قال: هلمَّ أيها الأعرابي قال: قد دعاني مَن هو أكرم منك فأجبته قال: ومن هو قال: دعاني اللَّه ربِّي إلى الصوم فأنا صائم قال: وصومٌ في مثل هذا اليوم الحارّ قال: صمتُ ليومٍ هو أحرُّ منه قال: فأفطِر اليومَ وصمْ غداً قال: ويضمنُ لي الأمير أني أعيش إلى غد قال: ليس ذلك إليه قال: فكيف يسألني عاجلاً بآجل ليس إليه قال: إنّه طعام طيّب قال: ما طَيَّبَهُ خبّازك ولا طبّاخُك قال: فمن طيَّبه قال: العافية قال الحجاج: تاللَّه إن رأيتُ كاليوم أخرِجوه قال أبو عمرو: خرج صَعصعةُ بنُ صُوحانَ عائداً إلى مكَّة فلقيه رجلٌ فقال له: يا عبد اللَّه كيف تركتَ الأرض قال: عَرِيضة أريضة قال: إنَّما عنيت السماء قال: فوقَ البشَر ومدَى البصر قال: سبحان اللَّه إنّما أردت السحاب قال: تحت الخضراء وفوقَ الغبراء قال: إنّما أعني المطر قال: عَفَّى الأثر وملأ القُتَر وبلَّ الوَبر ومُطِرْنا أحيا المطَر قال: إنسيٌّ أنت أم جنّي قال: بل إنسيٌّ من أمَة رجلٍ مَهديّ صلى الله عليه وسلم وقال بشار: وحمدٍ كعَصْب البُرِد حَمَّلتُ صاحِبي إلى مِلكٍ للِصّالِحينَ قَرِينِ وقال أيضاً: وبِكْرٍ كنُوَّارِ الرِّياضِ حدِيثُها تَرُوقُ بِوَجْهٍ واضِحٍ وقَوَامِ وكتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان: أمّا بعدُ فإنّا نخبر أميرَ المؤمنين أنَّه لم يصب أرضَنا وابلٌ منذ كتبتُ أخبره عن سُقيا اللَّه إيّاناً إلاَّ ما بلَّ وجهَ الأرض: من الطَّشّ والرشّ والرّذاذ حتّى دَقِعَت الأرض واقشعرت واغبرت وثارت في نواحيها أعاصيره تذرو دماق الأرض من تُرابها وأمسك الفلاّحون بأيديهم من شِدّة الأرض واعتزازها وامتناعها وأرضُنا أرض سريع تغيرها وشيكٌ تنكُّرها سيِّئٌ ظَنُّ أهلها عند قُحوط المطر حتّى أرسل اللَّه بالقَبول يوم الجمعة فأثارت زِبرجاً متقطعاً متمصّراً ثم أعقبَتْه الشَّمال يومَ السبت فطَحْطَحت عنه جَهَامَه وألَّفتْ متقطِّعَه وجمعت متمصِّره حتَّى انتضَدَ فاستوى وطَمَا وطحا وكان جوناً مُرثَعِنّاً 1 قريباً رواعده ثم عادت عوائده بوابلِ منهملٍ منسجل يردُف بعضُه بعضاً كلّما أردف شؤبوب أردفَته شآبيبُ لشدة وقعه في العِرَاص وكتبتُ إلى أمير المؤمنين وهي ترمي بمثل قِطَعِ القُطن قد ملأ اليَبَاب وسدَّ الشِّعاب وسَقَى منها كلُّ ساقٍ فالحمد للَّه الذي أنزل غيثَه ونشر رحمتَه من بعد ما قَنطوا وهو الوليُّ الحميد والسلام وهذا أبقاك اللَّه آخر ما ألَّفناه من كتاب البيان والتبيُّن ونرجو أن نكون غير مقصِّرين فيما اخترناه من صَنعته وأردناه من تأليفه فإن وَقَع على الحال التي أردنا وبالمنزلة التي أمَّلنا فذلك بتوفِيقِ اللَّه وحُسن تأييده وإن وقَع بخلافَهَا فما قصَّرنا في الاجتهاد ولكنْ حُرِمْنَا التوفيق واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
|